Saturday 11 October 2025
كتاب الرأي

نعيمة بنعبد العالي: بين أن تُرى… وأن تكون: المراهقة في عصر الأداء الرقمي  

نعيمة بنعبد العالي: بين أن تُرى… وأن تكون: المراهقة في عصر الأداء الرقمي   نعيمة بنعبد العالي

 في المدينة الصغيرة التي نشأتُ فيها، لم يكن المرء يكتفي بالعيش فحسب، بل كان يُظهر نفسه. لم تكن الحفلات العائلية أو المواسيم أو الملابس المُهذبة مجرد عادات، بل كانت مشاهد اعتراف اجتماعي، حيث يُبدي الكل وجوده، ويراقب الآخر ليحكم، ويقارن، ويصادق. كان النظر الاجتماعي هناك شاملاً، متجسّدًا، لا مفرّ منه، لكنه في الوقت نفسه يُثبّت , يقر, و يستقر: كان يمنح كلّ فرد مكانه في النسيج الجماعي.

اليوم، ما زالت الحاجة إلى الاعتراف قائمة، لكن مسرحها تغيّر. لم يعد المراهقون من جيل Z يبحثون عن مكانهم في شوارع المدينة أو محلاتها أو أعيادها، بل في التدفّق اللامتناهي للشاشات  حيث النظر، رغم انتشاره في كلّ مكان، يبدو أنه لم يعُد يعترف بأحد.

بين الفتاة اليابانية التي يُضايقها جمهورها في فيلم بيرفكت بلو Perfect Blue، (ساتوشي كون، 1997) والمراهقة الأمريكية القلقة من عدد الإعجابات في فيلم الصف الثامن Eighth Grade، (بو بيرنهام، 2018)، تظهر رغبة واحدة: تلك الذات التي تريد أن توجد في عيون الآخر، لكنها لم تعد تدري إن كان هذا النظر يراها أم يستهلكها.

من خلال قراءة متقاطعة لـجورج زيميل وإرفينغ غوفمان وبيونغ-تشول هان، تقترح هذه الدراسة فهم هذا التحوّل ليس كقطيعة، بل كـذروة مأساوية لمنطق عصري:

زيميل، منذ عام 1903، أظهر كيف أن المدينة الحديثة تشتت النظر الاجتماعي، حرّرت الفرد لكنها جعلته قلقًا؛

غوفمان، في منتصف القرن العشرين، وصف الحياة الاجتماعية كمسرحٍ تبني فيه الذات نفسها عبر الاعتراف الطقوسي؛

أما هان اليوم، فيلاحظ أن «مجتمع الشفافية» قد يمحي الفرق بين المسرح والكواليس  والآخر الحقيقي — ولم يبق سوى ذاتٍ تستغلّ نفسها لتوجد في عالم من «المتماثل».

من هنا، يبرز سؤالٌ ملحّ:

إذا كان نظر الآخر دومًا مقياس الوجود الاجتماعي، فماذا تصير الذات حين يصبح هذا النظر رقميًّا، مجهول الهوية، وخاليًا من العمق؟

على هذا السؤال — القديم والطارئ في آنٍ واحد — تحاول التحليلات التالية أن تجيب.

المحور الأول: من النظر المتجسّد إلى النظر الرقمي: تحوّل أنثروبولوجي في التواصل الاجتماعي.

إن طريقة بناء الذات في نظر الآخر ليست ثابتة، بل هي تجربة تتبلور تاريخيا. كما أدرك جورج زيميل منذ عام 1903، فإن الحداثة الحضرية غيّرت طبيعة النظر الاجتماعي بشكل جذري: في المدينة الصغيرة التقليدية، كان كلّ فرد معروفًا معرفة جامعة— عبر عائلته، ماضيه، تصرفاته اليومية. كان النظر هناك شاقا، بلا شك، لكنه معترفًا: كان يُدخل الفرد في سردٍ جماعي، ويعطيه مكانًا، حتى لو كان قاسيًا. كانت الحفلات والأعياد والمراسيم والزيّ المُعتنى به تشكّل طقوسًا للظهور الاجتماعي، حيث يُبرز المرء وجوده، ويراقب الآخر كي يشارك في النظام الجماعي.

لكن مع دخولنا المدينة الحديثة، يلاحظ زيميل انقطاعًا: يصبح النظر مجزّأً، مجهول الهوية، وظيفيًّا. لم يعد المرء يُرى «في كليته»، بل كأجزاء — كزبون، مارّ، موظف. وللنجاة من هذا التدفّق الحسي، يطوّر الفرد «تحفّظًا لامبالليا»، وهي لامبالاة وقائية. في هذا السياق، يصوغ إرفينغ غوفمان في منتصف القرن العشرين نظريته عن الحياة الاجتماعية كـتمثيل دائم. لم تعد «الذات» معطىً، بل أداء: يختار المرء أدواره، أزياءه، كواليسه، على أمل نيل الاعتراف من جمهور متعاون. يبقى نظر الآخر، رغم استلزاماته، إنسانيًّا، قابلاً للتفاوض، طقوسيًّا.

لكن في العصر الرقمي، يصل هذا المنطق إلى نقطة التشبع. كما يُظهر بيونغ-تشول هان، فإن «مجتمع الشفافية» يلغي التمييز الغوفماني بين المسرح والكواليس: كلّ شيء يصبح مرئيًّا، وكلّ شيء يجب مشاركته. لم يعد الجمهور مجموعة من المتلقّين المتجسّدين، بل تدفّقًا مجهول الهوية، تتوسّطه خوارزميات تقيّم دون أن تعترف. النظر الاجتماعي، الذي كان في الماضي منسوجًا في مجتمع (زيميل) أو تفاعلا (غوفمان)، يصبح دون تشخيص، فوريًّا، بلا ذاكرة.

هذا التحوّل هو ما تعيشه بطلتا فيلمينا بمرارة:

كايلا في" الصف الثامن" تسجّل مقاطع فيديو لجمهور وهمي، ليس من نرجسية، بل من حاجة يائسة إلى الاعتراف — تلك الحاجة نفسها التي كانت تُشبَع في المدينة الصغيرة بمجرد تحيّة في الشارع. لكن هنا، لا يردّ النظر: الإعجابات عشوائية، التعليقات نادرة، والاتصال وهمي.

ميما في" بيرفكت بلو" تُرى من قبل الآلاف، تصبح محل إعجاب و رغبة  — ومع ذلك، لا يعترف بها أيّ نظر كذات. تنتهك خصوصيتها ليس من جيران فضوليين، بل من موقع ويب يعيد إنتاج أفكارها قبل أن تكوّنها. لم يعد النظر نظر مجتمع، بل آلة لاستهلاك الصور.

هكذا، لا تتغيّر وظيفة النظر — فقد يظلّ دومًا مكوّنًا للهوية — بل تتغيّر قيمته الوجودية. حيث كانت القرية تقدّم مرآة جماعية، يقدّم الرقمي شاشة بلا قاع. وفي هذه الهاوية، يحاول جيل Z، بشجاعة وارتباك، أن يرى نفسه.

المحور الثاني: المراهق المؤدّي: حين تصبح الذات مشروع ظهور

إذا كان النظر الاجتماعي دومًا يشكّل الهوية، فإن المراهقة هي اللحظة التي تصبح فيها هذه الاعتمادية حاسمة وجوديًّا. كمرحلة انتقالية وهشّة وتجريبية، كانت المراهقة دومًا مسرح اختبار للنظر: من أكون، إن لم أكن ما يراه الآخرون فيّ؟ لكن حيث كانت هذه المحنة تدور في الماضي في إطارات طقوسية راسخة (المدرسة، العائلة، الحفلات)، فإنها تجري اليوم في فضاء بلا معالم ثابتة — تدفّق رقمي تتغيّر قواعده خلال أسابيع، حيث الظهور مطلوب ومخيف في آنٍ واحد، وحيث الوجود هو أن تُرى.

وصف إرفينغ غوفمان الأداء الاجتماعي كـاستراتيجية واعية، تكاد تكون ألعوبة: يختار المرء أدواره، يتدرب في الكواليس، ويعدّل قناعه حسب الجمهور. لكن في العصر الرقمي، يصبح اللعب إلزامًا، وتختفي الكواليس. لم يعد لدى المراهق رفاهية «التحضير»: عليه أن يقتحم الاداء باستمرار، أن يسجل كلّ تصرّف، أن يحسّن كلّ صورة. كما يشير بيونغ-تشول هان، لم يعد «لا يجب أن» هو المسيطر (كما في المجتمعات الانضباطية)، بل «تستطيع، يجب أن، تريد» — إلزام ضروري بالظهور، بالإيجابية، بإنتاج الذات.

هذا الضغط هو ما تعيشه كايلا في فيلم " الصف الثامن". إنها لا تسجّل مقاطع فيديو لتُصبح مشهورة، بل لأنها لم تعد تعرف كيف توجد بخلاف ذلك. نصائحها — «كن نفسك!»، «كن واثقًا!» — هي تعاويذ تكرّرها كمن يصلي، آملة أن تحوّلها إلى من تظن أنها يجب أن تكون. لكن المأساة هي أن الذات التي تؤدّيها ليست قناعًا تنزعه في الكواليس: لا كواليس هناك. غرفتها مسرح، وأفكارها تُكرّر لجمهور وهمي، وقلقها يُكبت باسم «الصورة الجيدة».

أما ميما في فيلم" بيرفكت بلو"، فتُجسّد نسخة أكثر عنفًا من هذا المنطق. حين تترك دورها كمغنية في مجموعة لتصبح ممثلة، تحاول اختيار أدائها بنفسها — لكن الجمهور يرفض أن يسمح لها بالتغيّر. تُصادر هويتها، وتُعاد كتابتها من قبل المعجبين ومن وسائل الإعلام، ومن قبل الموقع الوهمي. لم تعد تؤدّي دورًا: الدور يؤدّيها. تختفي الحدود بين ما هي عليه وما يُتوقّع منها، لدرجة أن الواقع نفسه يتفتت.

ومع ذلك، سيكون من التبسيط اعتبار هاتين البطلتين ضحيّتين سهلتين لنظام الاستلاب. إذا اندفع المراهقون إلى الشبكات بهذه الحماسة، فليس من السذاجة، بل لأن هذه الفضاءات تستجيب لحاجات عميقة: الحاجة إلى الانتماء، إلى الاعتراف، إلى تجربة الهوية في عمرٍ يبحث عن نفسه يائسًا. تقدّم الشبكات ما يرفضه العالم «الحقيقي» غالبًا: قبيلة، لغة مشتركة، مسرحًا للوجود دون الحاجة لتبرير الحضور. الموضة، الميمز، التحديات، الرموز اللغوية — كلّ ذلك يشكّل قواعد اجتماعية حية، تسمح بالقول: «أنا منكم».

لكن وراء التواصل، هناك أيضًا سلطة يبحثون عنها — ليست تلك السلطة العمودية للوالدين أو المؤسسات، التي غالبًا ما تكون ضعيفة أو غائبة، بل سلطة أفقية يولّدها الأقران. في عالم لم يعد فيه شيء ممنوع، حيث تصبح الحرية عبئًا، يخلق المراهقون معاييرهم الخاصة، أحيانًا أكثر صرامة مما فرضه آباؤهم. أن تكون «مثيرًا للسخرية» أو «مُبالَغًا» أو «ملحّاحًا» — هذه الأحكام لا تأتي من بالغ، بل من المجموعة، وتزن أكثر لأنها مُطبَّقة ذاتيًّا.

هكذا، لا تدخل كايلا في مشروع إنجاز فقط لإرضاء الآخرين: إنها تطيع قانونًا استلزمته بنفسها، لغياب حدود خارجية واضحة. وهنا تكمن مفارقة علاقتهم بالرقمي: هم لا يخضعون لسلطة غريبة، بل يبنون، بوعي وألم، الإطارات التي يفتقرون إليها.

لهذا، فأداء المراهق لا يصبح استلابًا فحسب: إنه أيضًا لغة، استراتيجية، محاولة يائسة لقول «أنا هنا» في عالم لم يعد ينظر. لكن هذه اللغة مرهقة، لأنها تتطلب تحويل الهشاشة — جوهر المراهقة — إلى قوة مرئية. وهنا يبدأ الانزلاق إلى الاغتراب: حين تفقد الذات نفسها لكي تُرى.

المحور الثالث: الاستلاب والمقاومة: حين يطلّ الواقع من شقوق العرض

إذا كان منطق النظر الرقمي يدفع الذات إلى الأداء حتى الإرهاق، فإنه لا ينجح أبدًا في إلغاء الواقع تمامًا. لأن الواقع، بالضبط، هو ما يُقاوِم، يفيض، يبزغ ويدنو — في الجسد الذي يرتجف، في الصوت الذي ينكسر، في الصمت الذي لا يُشارك. هذا التوتّر بين الاستلاب والمقاومة هو ما يدفع فيلمَي "بيرفكت بلو"  و "الصف الثامن" إلى ذروتهما، لا لتصوير جيل ضائع، بل لـجعل كفاح الذات من أجل البقاء متجذّرًا في الوجود, مرئيًّا.

يصف بيونغ-تشول هان «المجتمع المتماثل» حيث تختفي الأُخوَّة، لتحلّ محلّها أصداء نرجسية. في هذا العالم، تتفتت الذات، لأنها لم يعد لديها مرآة حقيقية لتتعرف على نفسها. ميما في "بيرفكت بلو" هي تجسيد مأساوي لذلك: أدوارها تتراكم (فتاة غناء، ممثلة، ضحية)، أفكارها تُسرَق، شبحها يطاردها. إنها لا تنهار من الضعف، بل لأنها تكافح لاستعادة نقطة ثابتة في فيض الصور. كابوسها ليس غياب الواقع، بل استحالة تمييزه عن العرض.

أما كايلا في" الصف الثامن"، فتعيش استلابا أكثر هدوءًا، لكنه حقيقي بالقدر نفسه. إنها لا تُضايَق، بل هي غير مرئية — ليست غائبة، بل غير معترف بها. قلقها لا يأتي من كثرة النظر إليها، بل من أن لا أحد يراها حقًّا. تتحدث إلى كاميرتها كما لو كانت تتحدث إلى صديق وهمي، ليس من نرجسية، بل من وحدة جذرية. تنقسم ذاتها: فهي «ملهمة» في الفيديو، منهارة في الحقيقة.

ومع ذلك — وهنا تكمن قوة هذين العملين — يطلّ الواقع.

عند كايلا، يكون ذلك في المخيم الصيفي، حين تطفئ هاتفها وتجرؤ على القول، بلا تصفية أو تنميق: «أخاف طوال الوقت». ليس هذا خطابًا، بل اعتراف — فعل هشاشة خالصة، خارج العرض، خارج الأداء.

أما عند ميما، فهو في المرآة الأخيرة، حين تنظر إلى انعكاسها وتقول: «لست فتاة للغناء. أنا أنا». ليس هذا انتصارًا مبهرجًا، بل فعل ولادة ذاتية، مكتسبٌ في الألم.

هذه اللحظات ليست «نهايات سعيدة». إنها هشّة، غير مستقرة، إنسانية. لكنها تثبت أن الواقع لم يختفِ: إنه يختبئ في تصدعات الرقمي، في الصمت غير المنشور، في الدموع غير المصوّرة، في الرسائل التي تُكتب للذات دون نشرها.

وهنا تكمن قوة المراهقة الفريدة: ليس في السيطرة، بل في القدرة على البقاء منفتحًا على غير المتوقّع، حتى حين يدفع كلّ شيء إلى التصلّب في صورة. كايلا وميما لا تنقذان العالم — لكنهما تنقذان، لحظةً، إمكانية أن تكون دون أن تظهر.

كما أدرك زيميل، النظر الاجتماعي أمر لا مفرّ منه لكنه، كما تُظهر هاتان البطلتان، ليس كلّ شيء. فهناك وراء النظر، الجسد الذي يتنفّس، القلب الذي يدقّ، الصوت الذي يجرؤ أحيانًا على قول الحقيقة — حتى لو لم يُعجب أحد.

من المدينة الصغيرة حيث كنّا ننظر في العيون، إلى الشاشة حيث نُقيّم في صمت، لم يتوقّف النظر الاجتماعي عن تغيير طريقة بناء الذات. رأى زيميل بحقّ: الحداثة تشرذم النظر، وتحرّر الفرد، لكنها تجعله قلقًا. وصف غوفمان كيف أن الذات، رغم كلّ شيء، تواصل تمثيلها في التفاعل، باحثةً عن الاعتراف والاتساق. لكن هان اليوم يلاحظ أن في «مجتمع الشفافية»، لم يعد هناك مسرح راسخ، ولا كواليس آمنة، ولا آخر حقيقي — فقط ذاتٌ تستغلّ نفسها لتوجد في تدفّق بلا قاع.

ومع ذلك، فإن مراهقي جيل Z ليسوا ذواتًا مندثرة. مثل كايلا وميما، إنهم يبحرون في هذه العاصفة بوضوح مؤلم وإبداع عنيد. إنهم يؤدّون، بلا شك — لكن ليس من غرور، بل من حاجة إلى التواصل. إنهم يتبنّون رموز و قوانين الرقمي — ليس من الخضوع، بل لأنهم يجدون فيه القبيلة التي يفتقرون إليها. والأهم، إنهم يتغيّرون — في آرائهم، أساليبهم، كلماتهم، وجهات نظرهم — ليس من الخفة، بل لأنهم استوعبوا حقيقة وجودية: في عالم بلا معالم ثابتة، الوفاء الوحيد الممكن هو للصيرورة نفسها.

هذا ليس عدم استقرار: إنه مرونة في عالم غير مستقر. ليس سطحية: إنه عمق متحرّك، يرفض أن يُجمّد في صورة، حتى لو كانت مثالية. »لأن ما تبحث عنه كايلا وميما — وما يبحث عنه كلّ المراهقين — ليس الإعجاب أو الإعجابات أو حتى الفهم بل ببساطة أن تقول، يومًا، في لحظة هدوء، بدون كاميرا، بدون جمهور، بدون أداء: »أنا هنا. وهذا يكفي.» وربما هنا، في هذه البساطة المستعادة، تكمن أقوى أشكال المقاومة: ليس رفض الرقمي بل الحفاظ، في قلبه، على فضاءٍ يمكن فيه أن تكون — دون أن تحتاج أن تبرهن على ذلك.