Saturday 11 October 2025
كتاب الرأي

المصطفى قاسمي: قراءة في خطاب 10 أكتوبر 2025.. “هندسة الدولة الاجتماعية”

المصطفى قاسمي: قراءة في خطاب 10 أكتوبر 2025.. “هندسة الدولة الاجتماعية” المصطفى قاسمي
يُمثل الخطاب الملكي لافتتاح السنة التشريعية الأخيرة (10 أكتوبر 2025) وثيقة سياسية ودستورية بالغة الأهمية، تتجاوز كونها مجرد توجيهات ظرفية لتكتسب أبعاداً تأسيسية لمرحلة جديدة في بناء الدولة المغربية الحديثة. من منظور أكاديمي في العلوم السياسية، لا يمكن قراءة هذا الخطاب إلا باعتباره ممارسة لدور “الملك المُشرِّع” (Le Roi Législateur)؛ وهو مفهوم لا يعني التدخل في السلطة التشريعية، بل يشير إلى قدرة المؤسسة الملكية على تحديد الأجندة التشريعية والسياسية للدولة، ورسم الإطار الفلسفي والمفاهيمي الذي يجب أن تتحرك ضمنه باقي السلطات والمؤسسات.
 
إن تحليل هذا الخطاب يكشف عن بنية فكرية متكاملة تهدف إلى “هندسة الدولة الاجتماعية” (L’ingénierie de l’État social) عبر آليات الحكامة الترابية والعدالة المجالية.
 
1. إعادة تعريف مفهوم “الزمن السياسي” في ظل “دولة الأوراش”
الرسالة الأولى والأكثر إلحاحاً في الخطاب كانت دعوة البرلمانيين إلى “الجدية” واستثمار الزمن التشريعي المتبقي. أكاديمياً، هذه ليست مجرد دعوة أخلاقية، بل هي إعادة تعريف لمفهوم “الزمن السياسي” في المغرب. ففي حين أن الديمقراطيات التمثيلية التقليدية تعيش على إيقاع الدورات الانتخابية وما يصاحبها من “زمن ميت” في نهايات الولايات، يفرض الخطاب الملكي منطقاً مغايراً: منطق “دولة الأوراش” (État-chantier) الذي لا يتوقف.
 
هنا، يتم تجاوز ثنائية “زمن التشريع” و”زمن الانتخابات” لصالح مفهوم “الزمن التنموي المستمر”. الرسالة الضمنية هي أن شرعية الفاعل السياسي لم تعد تُستمد فقط من صناديق الاقتراع كل خمس سنوات، بل من قدرته على مواكبة “الزمن الملكي” الذي يضع وتيرة متسارعة لإنجاز المشاريع الاستراتيجية. وهذا يمثل ضغطاً إيجابياً على النخبة السياسية للانتقال من منطق إدارة الصراعات الحزبية إلى منطق إدارة الإنجاز.
 
2. العدالة المجالية: من مطلب اجتماعي إلى عقيدة للدولة (Doctrine d’État)
يرتقي الخطاب بمفهوم “العدالة الاجتماعية والمجالية” من كونه مطلباً شعبياً أو هدفاً ضمن أهداف السياسات العمومية، ليصبح “عقيدة للدولة” (Doctrine d’État) و”رهاناً مصيرياً”. هذا التحول في التوصيف له دلالات عميقة:
 
• إلزامية التنفيذ: لم يعد الأمر خياراً سياسياً للحكومة، بل أصبح واجباً دستورياً ومعياراً أساسياً لتقييم الأداء الحكومي والترابي.
• تحديد معيار جديد للتنمية: يرفض الخطاب بشكل قاطع منطق “المغرب ذي السرعتين”. وبالتالي، فإن أي نموذج تنموي لا يضع في قلبه تقليص الفوارق المجالية يعتبر، من منظور الخطاب، نموذجاً فاشلاً حتى لو حقق مؤشرات نمو إجمالية إيجابية.
• توجيه الموارد: الدعوة الصريحة للعناية بالمناطق الجبلية والواحات هي توجيه مباشر لإعادة تخصيص الموارد المالية والبشرية نحو المناطق الأكثر هشاشة، مما يفرض على قوانين المالية المقبلة والبرامج القطاعية تبني هذا التوجه.
 
3. “ثقافة النتائج”: نحو تكنوقراطية الأداء داخل الديمقراطية التمثيلية
عندما يربط جلالة الملك نجاح التحول التنموي بـ”تغيير العقليات” وترسيخ “ثقافة النتائج”، فإنه يدشن لمرحلة جديدة من الحكامة تتجاوز الشكلانية الإدارية. أكاديمياً، يمكن تفسير ذلك بأنه محاولة لدمج “تكنوقراطية الأداء” (Technocratie de la performance) ضمن آليات الديمقراطية التمثيلية.
 
الفكرة ليست استبدال المنتخبين بالخبراء، بل تزويد المنتخبين والمسؤولين بأدوات الحكامة الحديثة القائمة على:
 
• القياس والتقييم: الانتقال من “ثقافة الوسائل” (توفير الميزانيات) إلى “ثقافة النتائج” (قياس الأثر الفعلي على المواطن).
• الرقمنة كأداة للشفافية: استخدام التكنولوجيا ليس ترفاً، بل هو آلية لضمان التتبع الدقيق للمشاريع ومحاسبة المسؤولين عن أي تأخير.
• المسؤولية المشتركة: توسيع دائرة المسؤولية لتشمل الفاعلين غير الحكوميين (الإعلام، المجتمع المدني) يعكس فهماً حديثاً للحكامة التشاركية، حيث لا تنفرد الدولة بمسؤولية التنمية.
 
خلاصة أكاديمية:
إن خطاب 10 أكتوبر 2025 ليس مجرد خطاب توجيهي، بل هو فعل سياسي تأسيسي (Acte politique fondateur) يهدف إلى تسريع الانتقال نحو نموذج “الدولة الاجتماعية الفاعلة”. إنه يضع إطاراً نظرياً وعملياً صارماً للحكومة والبرلمان، ويحدد معايير جديدة للشرعية السياسية قوامها الإنجاز الملموس والعدالة المجالية.
 
 
الدكتور المصطفى قاسمي 
استاذ القانون الدستوري والعلوم السياسية 
رئيس مؤسسة القاسمي للتحليل السياسي والدراسات الاستراتيجية والمستقبلية