Thursday 9 October 2025
كتاب الرأي

سفيان نجيح: حين يصمت الدستور.. قراءة في حدود الصلاحيات الملكية وإشكالية إعفاء رئيس الحكومة

سفيان نجيح: حين يصمت الدستور.. قراءة في حدود الصلاحيات الملكية وإشكالية إعفاء رئيس الحكومة سفيان نجيح
لقد أعاد الملف المطلبي لحركة جيل Z212 إحياء النقاش العمومي حول مسألة الصلاحيات الدستورية المخولة للملك، خصوصًا فيما يتعلق بإمكانية إعفائه لرئيس الحكومة من مهامه. فبمجرد الإعلان عن هذا الملف، تصاعدت القراءات السياسية والدستورية التي سعت إلى تأطير هذا الإشكال ضمن منطق التوازن بين السلط، والمنهجية الديمقراطية المنصوص عليهما في الوثيقة الدستورية لسنة 2011.
 
وقد اتجه عدد من الباحثين والمهتمين إلى اعتبار أن الملك لا يتوفر على سلطة إعفاء رئيس الحكومة بشكل مباشر، مستندين في ذلك إلى أن الدستور المغربي لم ينص صراحةً في أي من فصوله على منح هذه الصلاحية للملك، على خلاف ما هو الحال بالنسبة لسلطة التعيين. وهو ما يُفهم منه، وفق هذا الاتجاه، أن استمرار رئيس الحكومة في منصبه لم يعد رهينًا بسلطة تقديرية ملكية، بل خاضعًا لمنطق الشرعية الانتخابية والبرلمانية التي أفرزته.
 
غير أن هذا التأويل، وإن كان يستند إلى مقاربة نصية صارمة، يفتح الباب في المقابل أمام خيارات دستورية غير مباشرة يمكن من خلالها ممارسة الإعفاء في صيغ أخرى. وفي مقدمتها استقالة رئيس الحكومة، التي يترتب عنها، طبقًا للفصل 47 من الدستور، إعفاء الحكومة بكاملها من لدن الملك، مع استمرارها في تصريف الأمور الجارية إلى حين تشكيل الحكومة الجديدة. ويمثل هذا السيناريو، من الناحية الشكلية، ممارسة مشروعة تتيح للملك التدخل في إعادة تشكيل السلطة التنفيذية في إطار النص الدستوري ذاته، دون الحاجة إلى تأويل موسّع لصلاحياته.
 
ويُضاف إلى ذلك خيار ثانٍ يتمثل في حلّ مجلسي البرلمان أو أحدهما، وهو ما يتيحه الفصل 51 من الدستور بظهير ملكي، مع التقيد بالمقتضيات الإجرائية الواردة في الفصلين 96 و97. فالفصل 96 يربط هذا القرار بضرورة استشارة رئيس المحكمة الدستورية (استشارة إلزامية من حيث الشكل لا من حيث المضمون)، إلى جانب إخبار رئيس الحكومة ورئيسي مجلسي البرلمان، فضلاً عن توجيه خطاب ملكي إلى الأمة قبل مباشرة الحل. بينما ينص الفصل 97 على ضرورة إجراء الانتخابات الجديدة في أجل أقصاه شهران من تاريخ الحل، ضمانًا لاستمرارية المؤسسات الدستورية وعدم حدوث فراغ تشريعي.
 
إن هذا التوجه، الذي ينفي صراحة إمكانية الإعفاء المباشر ويقرّ في المقابل بوجود مسالك دستورية بديلة، يعكس في عمقه نزعة تأويلية ديمقراطية – وإن اختلفت نوايا أصحابها – تسعى إلى ترسيخ مبدأ التقييد الدستوري للسلطة الملكية وفصلها عن منطق العرف السياسي، والقطع مع الممارسات التقليدية الكامنة في النصوص الدستورية. غير أن هذا الرأي، رغم وجاهته من الناحية الشكلية، يبقى نسبيًا ومحدودًا، لأنه يتجاهل الإمكانات التي يتيحها سكوت الدستور ذاته، وما ينطوي عليه من مرونة تأويلية تسمح بالاستناد إلى روح النص لا إلى حرفيته فقط.
 
فمن الناحية النظرية، صحيحٌ أن الدستور لم ينص صراحةً على سلطة الملك في الإعفاء، مكتفيًا بتحديد صلاحياته في مجال التعيين، غير أنه في المقابل لم يتضمن ما يمنع ذلك أيضًا. ومن ثمّ، فإن التمسك بالمقاربة الحرفية للنص الدستوري يفضي إلى تفسير قاصر ومبتور، إذ إن المتن الدستوري ذاته لا ينفي إمكانية الإعفاء الملكي لرئيس الحكومة، بل يترك الباب مفتوحًا أمام التأويل السياسي والقانوني، بغض النظر عمّا إذا كان هذا التأويل ديمقراطيًا أو غير ذلك، ما دام لا يوجد في النص الدستوري ما يمنعه.
فضلًا عن ذلك، فإن القانون الدستوري المغربي عمومًا لا يشترط دائمًا التنصيص الصريح لإقرار مبدأ أو صلاحية معينة، إذ تُفهم العديد من القواعد ضمنيًا ومن خلال السياق العام للنظام السياسي الذي يتسم بتداخل الرمزي بالمؤسساتي. وعليه، فإن ما لا يُقال صراحة في النص يُفهم في كثير من الأحيان من خلال ما بين السطور، ضمن نسق سياسي ودستوري مثقل بالدلالات والرموز، وهو ما يمنح الممارسة الدستورية في المغرب طابعًا فريدًا ومركبًا.
 
وبالتالي، فإن مسألة إعفاء الملك لرئيس الحكومة مباشرة، إذا ما اقتصرنا على الفصل 47 من الدستور، تظل ممكنة ومتاحة إلى جانب اختيارات أخرى يمنحها له نص الدستور وروحه. فالفصل 47 لا يرتبط فقط بلحظة الإعلان عن نتائج الانتخابات التشريعية وما يترتب عنها من تعيين رئيس الحكومة من الحزب المتصدر، ثم تعيين الوزراء أو إعفائهم بناءً على اقتراح من رئيس الحكومة، بل يمتد نطاقه إلى كامل الولاية الحكومية بكل ما قد يرافقها من إشكالات سياسية ودستورية تتطلب تدخلاً لتصحيح مسار الممارسة أو إعادة توازنها. ومن ثم، يجب قراءة هذا الفصل بوصفه إطارًا ديناميًا متحركًا لا مجرد نص مؤسس للحظة التعيين الأولى.
 
وتجد هذه القراءة سندها الواقعي في تجربة الإعفاء الملكي لعبد الإله بنكيران سنة 2017 بعد تعثره في تشكيل الحكومة، وتعيين شخصية أخرى (سعد الدين العثماني) من الحزب ذاته المتصدر للانتخابات، بما ينسجم مع مقتضيات الفصل 47 من الدستور. هذا الإجراء، في عمقه، يؤكد قابلية النص الدستوري للتأويل السياسي العملي حين يفرض الواقع ذلك.

ويُضاف إلى ذلك ما شهدته مناقشة مشروع القانون التنظيمي رقم 02.12 المتعلق بالتعيين في المؤسسات والمقاولات العمومية من جدل مماثل، اعتُبر بموجبه أن رئيس الحكومة تخلى عن بعض صلاحياته لفائدة الملك.
 
فالدستور لا يسمح للملك بالتعيين بواسطة ظهير إلا في الحالات المنصوص عليها صراحة، وهو ما لم يُحترم في مشروع القانون الذي كرَّس التعيين بظهائر في عدد من المناصب السامية، بما في ذلك مؤسسات لا تُعد ذات طابع استراتيجي، وهو ما فُسر بأنه تأويل غير ديمقراطي للفصلين 49 و92 من الدستور.
 
إن هذه الملاحظات، في عمقها، تقود إلى ما يمكن تسميته في الأدبيات السياسية المغربية بـ "الدستور الضمني"، الذي يتجاوز النص المكتوب ليعبّر عن نسق التوازنات الفعلية داخل النظام السياسي. فبقدر ما يتيح الدستور المكتوب تحديد الحدود الشكلية للصلاحيات، فإن الدستور الضمني يمنح الملك هامشًا واسعًا من التقدير السياسي، بوصفه رئيس الدولة وضامن دوامها واستمرارها، والحكم الأسمى بين مؤسساتها، وفقًا للفصل 42 من الدستور.
 
وعلى خلاف بعض الأنظمة المقارنة التي تستشرف دساتيرها وقوانينها الأساسية جميع الإشكالات الممكنة وتفرد لها حلولًا محددة لتجنب الأزمات الدستورية، فإن الدستور المغربي اختار الإحالة على السلطة التقديرية للملك باعتباره ضامن التوازنات الكبرى وممثل الدولة في بعدها الرمزي والمؤسساتي، وهو ما يجعل الممارسة السياسية مكملة للنص الدستوري لا مناقضة له.
 
تأسيسًا على ذلك، يمكن القول إن الخيارات الدستورية والسياسية المتاحة أمام المؤسسة الملكية متعددة، وليست مقتصرة على حالة واحدة بعينها. فالدستور المغربي، بصيغته الحالية، يمنح الملك مجالًا تقديريًا واسعًا لتأويل النصوص في ضوء مقاصدها العامة، لا وفقًا لتفسيرها الحرفي فحسب. وبالتالي، فإن تعيين رئيس الحكومة من الحزب المتصدر للانتخابات لا يعني بالضرورة تقييد سلطة الملك في الإعفاء، طالما أن هذا الإعفاء لا يتعارض مع روح الدستور ولا مع مبدأ الاستمرارية المؤسساتية.
 
إن المقاربة القانونية وحدها، مهما بلغت دقتها، تظل غير كافية لفهم دينامية الممارسة السياسية المغربية، التي تقوم على التفاعل الجدلي بين النص الدستوري المكتوب والدستور الفعلي غير المعلن، أي بين القانون والسياسة، وبين الشرعية الدستورية والمشروعية التاريخية للمؤسسة الملكية، باعتبارها الضامن الأعلى لتوازن السلط واستقرار الدولة.
 
سفيان نجيح /باحث متخصص في القانون الدستوري والعلوم السياسية