Sunday 5 October 2025
كتاب الرأي

محمد مسعاد: إعلام عمومي VS “صحافة تحت الطلب”

محمد مسعاد: إعلام عمومي VS “صحافة تحت الطلب” محمد مسعاد

من حسنات احتجاجات جيل “Z 212” في المغرب أنها أعادت النقاش إلى مساره الطبيعي: وطرح السؤال حول دور الإعلام العمومي في زمن التحولات والاحتقان الاجتماعي؟ لقد كشف البرنامج الخاص الذي بثته القناة الثانية حول هذه الاحتجاجات أن الإعلام العمومي، حين يتحرر من الجمود، يمكن أن يستعيد مكانته كوسيط ديمقراطي، وفضاء للنقاش العمومي الجاد، ومرفق في خدمة المواطن لا في خدمة الأجندات. لقد بينت هذه الأحداث أنه عندما تصبح الأمور حرجة فإن الحل كامن في الاعلام العمومي وليس في أعلام الدوباج والبونجات وقنوات الصرف الصحي التي تتلذذ بعاهات المجتمع، كما حدث مع شاب الجديدة الذي تسببت له في مشكلة كبيرة سترافقه كعاهة مستديمة.

 

الإعلام العمومي كمرفق ديمقراطي

حين يُفتح الفضاء الإعلامي العمومي أمام قضايا المجتمع الحقيقية، وتُمنح الكلمة لكل الأصوات، بما في ذلك الشباب، يعود الإعلام إلى جوهر وظيفته: جسر يربط بين المواطن والدولة، وبين الواقع وصانع القرار. لقد مثّل النقاش المباشر على القناة الثانية الذي أدارته الزميلة سناء رحيمي بحنكة كبيرة خطوة جريئة أعادت الثقة في الإعلام العمومي كفاعل قادر على ترجمة نبض الشارع إلى حوار مسؤول. والأهم، أنه أظهر أن النقاش الحر ليس تهديداً للاستقرار، بل صمام أمان له. غير أن المشهد الإعلامي اليوم يعيش مفارقة مؤلمة: ففي الوقت الذي يُفترض أن يكون الإعلام العمومي فضاءً للنقاش المتعدد والمستنير، نرى في المقابل تمدداً لما يمكن تسميته بـ“إعلام الوكالة”، أو ما يُعرف بـ“صحفي تحت الطلب” (Journaliste On Demand). هؤلاء ليسوا مهنيين بقدر ما هم منفذون لرغبات سلطة أو وزير أو فاعل سياسي وأصحاب لوبيات، حتى أصبح لكل مسؤول “زبانيته” الإعلامية المنتشرون في أرض الوسائط الواسعة، يبررون ويصفقون له، في مقابل صمت أو اسكات القنوات العمومية عن القضايا الجوهرية للمجتمع. إذ تحوّل الإعلام في بعض فتراته إلى إعلام يُدار بالتحكم لا بالحوار. ما الذي يمنع اليوم من وجود برامج حوارية وأخرى وظيفية تفتح النقاش حول قضايا الساعة بلغة تواصلية بسيطة بعيدة عن اللغة الأكاديمية؟ بدل ذلك، امتلأ الفضاء العمومي بما يمكن وصفه بـ“قنوات الصرف الصحي” التي تتلذذ بعاهات المجتمع وتغذي خطاب الكراهية والتمييز، تحت غطاء “الإثارة” و“البوز”.

 

زمن الإثارة… وانهيار الثقة

في زمن تسارع الأخبار، صار الإعلام القائم على الإثارة ينتج داخل المجتمع حالة جماعية من الاحتقان والحقد الاجتماعي. حين تختزل الممارسة الصحافية في عرض متكرر لمآسي الناس وعاهاتهم، دون أي تأطير أو تحليل مسؤول، تتحول الشاشات والمنصات إلى مرايا مكبرة للظواهر السلبية، تُغذي الخوف وانعدام الثقة، وتزرع في النفوس شعوراً بعدم الأمان. تحت منطق “البوز”، أصبح الخبر يُصنع لا ليُخبر، بل ليُثير. تحول بعض “اليوتيوبرز” إلى صناعٍ لوهم التأثير، يلهثون وراء المشاهدات على حساب المصداقية، ويستبدلون قيم التنوير بثقافة الاستهلاك الفارغ. وأصبحت النتيجة واضحة: بيئة من التضليل، وانهيار الثقة، وانزياح النقاش العمومي نحو التفاهة والعنف الرمزي. حين يسود خطاب الإثارة، يُستبدل الحوار بالعنف، والأمل باليأس. الإعلام الذي يتخلى عن مسؤوليته الأخلاقية في البناء المشترك للوعي، يساهم – من حيث لا يدري – في تفكيك المجتمع بدل صيانته.

 

دور الإعلام والصحافة في المجتمع: من نقل الواقع إلى المساهمة في بنائه

يُعدّ الإعلام بمختلف وسائطه ركناً أساسياً من أركان الدولة الحديثة، وأحد أهم مؤشرات حيوية الديمقراطية. فمهمة الصحافة لا تقتصر على نقل الأخبار أو نقل المعلومة، بل تتجاوز ذلك إلى تنوير الرأي العام، ومساءلة السلطة، وإتاحة فضاء للنقاش العمومي. إنها سلطة رقابية ناعمة، تمكّن المواطنين من الفهم والمشاركة والمساءلة، وتُسهم في بناء وعي جماعي قادر على التعامل مع القضايا المعقدة التي تواجه المجتمع. غير أنّ المشهد الإعلامي العالمي – والعربي على وجه الخصوص – يشهد تحوّلاً عميقاً في زمن أصبحت فيه الشهرة والتفاعل وعدد المشاهدات هي المعيار الأول، لا الجودة أو المصداقية. في خضم هذا التحول، تراجع البعد المعرفي والوظيفة التنويرية للصحافة، وهيمنت عليها ثقافة الإثارة، والسطحية، والدراما المفتعلة التي تُغري المتابع أكثر مما تُثريه. لقد تحوّل جزء من الإعلام إلى صناعة للانفعال، لا أداة للفهم. في مواجهة هذا المسار، يبرز اليوم ما يُعرف بـصحافة الحلول التي لا ترى في نفسها مجرد ناقل للأحداث أو مراقب من الخارج، بل فاعل في تحسين الواقع. فهي لا تسعى إلى تلميع الصورة، بل إلى تقديم رؤية متوازنة تُظهر التحديات وتُبرز في الوقت نفسه المبادرات والحلول. إنها صحافة تسأل لا فقط: ما الذي يسير بشكل خاطئ؟، بل أيضًا: ما الذي يمكن فعله لتحسين الوضع؟ صحافة الحلول ترفض منطق الإثارة السهل، وتستبدله بنهج مسؤول يقوم على التحليل، والتفسير، وربط الأحداث بسياقاتها الاجتماعية والسياسية. وهي لا تغذي الانقسام أو العداء، بل تعمل على تعزيز الفهم المتبادل، وترسيخ ثقافة الحوار، وإعادة الثقة بين المواطن ومؤسساته. وبذلك، يتحوّل الإعلام من مجرد ناقل للواقع إلى شريك في صناعته، ومن مرآة تعكس أزمات المجتمع إلى أداة تساهم في حلها. فإعلام يمتلك الشجاعة والموضوعية معاً، هو الذي يُعيد للمجتمع توازنه، ويجعل من الكلمة الحرة عماداً للديمقراطية، لا سلاحاً للانقسام.

 

نحو ملاءمة 2.0

لقد آن الأوان لإطلاق مرحلة جديدة يمكن تسميتها بـ “الملاءمة 2.0”: لإعادة الأمور إلى نصابها، ووضع ميثاق وطني للإعلام يحدد بوضوح العلاقة بين الحرية والمسؤولية، وبين الرأي والمعلومة، وبين الفضاء العمومي والفضاء الرقمي. نحتاج إلى إعلام عمومي جريء، تعددي، ومتفاعل آنياً مع قضايا المجتمع، ومقاولات اعلامية تنافسية حقيقية. نحتاج إلى اعلام حقيقي وليس إلى “إعلام وكالة” أو “صحافة تحت الطلب” تُدار بالريموت كونترول من مكاتب الوزراء واللوبيات. الإعلام العمومي ليس ترفاً، بل ركيزة أساسية للديمقراطية. دوره أن يُعيد للمجتمع توازنه، وأن يفتح الحوار بدل أن يُغلقه، وأن يصنع رأياً عاماً مستنيراً لا منفعلاً. من هنا، تصبح مبادرات النقاش المباشر التي تبادر بها القنوات العمومية نقطة ضوء حقيقية في زمن الظلال الرقمية — فهي ليست مجرد مادة إعلامية، بل فعل مواطنة في حد ذاته. فكما غنت الزميلة سناء: “ويا بلادي عيشي”، لا يمكن للوطن أن يعيش ديمقراطياً بدون إعلام حر ومسؤول.

محمد مسعاد، صحفي مغربي مقيم في ألمانيا