Sunday 7 September 2025
منبر أنفاس

مراد علوي: الإعلام والنخب السياسية … علاقة جدلية

مراد علوي: الإعلام والنخب السياسية … علاقة جدلية مراد علوي

في سياق متغيرات سياسية واجتماعية متسارعة، تواجه الأحزاب السياسية في المغرب تحديات متنامية تتعلق بمصداقيتها ودورها في تعزيز الثقة لدى المواطنين، وخاصة الشباب. ورغم الأهمية التي تضطلع بها الأحزاب كقنوات للتأطير السياسي والتعبير عن مطالب الفئات المجتمعية، تظل الشكوك قائمة حول قدرتها على الوفاء بالالتزامات وتحقيق التغيير المنشود. فكيف يمكن تفسير هذا التراجع؟ وما هي مسؤولية الأحزاب السياسية؟ وكيف يمكن إعادة بناء جسور الثقة مع فئة الشباب؟

في ظل التحولات المجتمعية التي يعيشها العالم اليوم، لا سيما على المستويين السياسي والتواصلي، تبرز العلاقة بين الإعلام والنخب السياسية كأحد المحاور الأساسية لفهم طريقة تشكُّل الرأي العام، وتوجيه السياسات العامة، بل وصناعة الوعي الجمعي. لم تعد وسائل الإعلام اليوم مجرد منصات لنقل المعلومة، بل تحولت إلى فواعل مستقلة تملك من التأثير ما قد يتجاوز أحيانًا فعل السياسي نفسه.

فالمشهد السياسي اليوم لا يمكن فصله عن تأثير الإعلام، الذي لم يعد محصورًا في الصحافة التقليدية أو نشرات الأخبار، بل امتد ليشمل المنصات الرقمية، ومواقع التواصل الاجتماعي، وكل وسائط الصورة والصوت التي تغزو الفضاء العام بلا انقطاع. وهو ما منح الإعلام قوة غير مسبوقة، لدرجة أن بعض المحللين باتوا يعتبرونه “السلطة الأولى” بدل “الرابعة”، لما له من قدرة على توجيه الرأي العام، والتأثير على قرارات النخب وصياغة السياسات العمومية

الإعلام العمومي كفاعل سياسي اليوم

من خلال أدواته المستعملة من الصحف إلى القنوات الفضائية ثم إلى المنصات الرقمية، أصبح الإعلام قادرًا على خلق أجندات جديدة، وتحديد أولويات النقاش السياسي، بل وفرض قضايا على الفاعلين السياسيين لم تكن مدرجة في جداولهم. لقد تغيّرت قواعد اللعبة، وأضحى الفعل السياسي يُقاس بمدى حضوره وتأثيره الإعلامي.

فالإعلام اليوم لا يكتفي بنقل صورة السياسة، بل يشارك في إنتاجها، ويضفي عليها معاني وأبعادًا تؤثر في المتلقي، وتعيد تشكيل الوعي العام. وهذا ما يجعل السياسي حريصًا على نسج علاقات استراتيجية مع وسائل الإعلام، بل وأحيانًا يندفع نحو امتلاكها أو السيطرة عليها، لضمان استمرارية حضوره وتوجيه صورته في الفضاء العمومي.

النخب السياسية بين التأثير الإعلامي والإغراء الخطابي

أما النخب السياسية، فهي تتفاعل مع الإعلام من موقع مزدوج: فهي موضوع للتغطية الإعلامية من جهة، وفاعل يحاول استثمار المنصات الإعلامية لبناء صورته وترويج مشروعه من جهة ثانية. وفي هذا السياق، يمكن أن نلاحظ تنامي ظاهرة " الشعبوية الإعلامية”، حيث يعتمد بعض السياسيين على إثارة الجدل أو اللعب على وتر العواطف للظهور الإعلامي، عوض تقديم برامج سياسية واقعية.

وبالمقابل، هناك من النخب من يسعى إلى تطوير خطاب سياسي عقلاني مدعوم بمعطيات، ويبحث عن فضاءات إعلامية جادة تعزز من وعي الجمهور. غير أن هذا النوع من الخطاب يواجه تحديًا كبيرًا في عصر السرعة والسطحية، حيث تُستبدل الأفكار بالصور، والتحليل باللافتات

الإعلام والسياسة: علاقة تأثير وتأثر.. لعبة مزدوجة

وفي هذا السياق، فإن العلاقة بين الطرفين ليست سلبية بالضرورة، بل يمكن أن تكون تكاملية حين تقوم على احترام حرية التعبير، والشفافية، والمساءلة المتبادلة. كما أن تفعيل دور الإعلام المهني والمسؤول يمكن أن يسهم في تطوير الحياة السياسية، عبر تعزيز وعي المواطنين، ومراقبة أداء النخب، وخلق فضاء عام للنقاش والتعددية.

لا يمكن الحديث عن سياسة في عصر الصورة دون الحديث عن الإعلام، ولا عن إعلام حقيقي دون استقلاله عن الفاعل السياسي. فالطرفان في علاقة لا فكاك منها، ويبقى الرهان الحقيقي هو في تحقيق التوازن بين سلطة الكلمة وسلطة القرار، بما يخدم الصالح العام ويعزز من تطور المجتمعات الديمقراطية.

إن العلاقة بين الإعلام والنخب السياسية إذن هي علاقة تأثير وتأثر، تقوم على جدلية معقدة من التوظيف والتأطير. ويمكن تلخيص معالم هذه العلاقة في المحاور الآتية:

  • الإعلام يؤثر في السياسة من خلال تكوين الرأي العام، وفرض قضايا سياسية جديدة، وتحفيز الحراك الاجتماعي، وقدرته على مساءلة السلطة وتسليط الضوء على الفساد أو الاختلالات.
  • والسياسة تؤثر في الإعلام عبر الضغط، أو التمويل، أو محاولة توجيه الخط التحريري، أو استعمال القوانين للتضييق على وسائل إعلامية منتقدة.

هذه العلاقة لا تخلو من التوتر، ولكنها قد تكون بناءة إذا استندت إلى قواعد أخلاقية ومهنية، وإذا احترم الإعلام استقلاله، وعرفت النخب حدود تدخلها، وتوفرت بيئة سياسية ديمقراطية تحترم حرية الصحافة والتعبير.

السياسة اليوم : أزمة فعل أم أزمة صورة ؟

في زمن تقاس فيه قوة السياسي بعدد متابعيه على وسائل التواصل الاجتماعي، وتُختزل فيه السياسات العمومية و البرامج السياسية في لقطات مصوّرة أو تصريحات سريعة، يحق لنا أن نتساءل : هل تعيش السياسة أزمة فعل حقيقي أم أزمة صورة متضخمة ؟

الحقيقة أن السياسة أصبحت في كثير من الحالات رهينة للصورة. لم يعد المهم مضمون القرارات بقدر ما يهمّ كيف ستبدو أمام الكاميرا. المشهد السياسي تحوّل إلى مسرح كبير، يتنافس فيه الفاعلون على الظهور، لا على الإنجاز، وعلى تسويق أنفسهم لا على خدمة مجتمعاتهم. وقد أسهم الإعلام، بوعي أو دون وعي، في ترسيخ هذا النمط من الممارسة السياسية.

وهنا تكمن خطورة المرحلة: فحين تتحول السياسة إلى استعراض، ويفقد الإعلام دوره الرقابي والتوعوي، تصبح الديمقراطية مهددة، ويتراجع العقل النقدي لدى الجماهير، التي تُغرقها الصورة وتُبعدها عن عمق الفعل السياسي.

لكن رغم ذلك، فإن هذا التحدي يحمل في طياته فرصة لإعادة التفكير في دور الإعلام، وفي طبيعة العلاقة التي يجب أن تربطه بالنخب السياسية، ضمن مشروع يعيد للسياسة معناها الحقيقي: خدمة الإنسان والمجتمع، لا خدمة الصورة والواجهة.

 

مراد علوي        
باحث في الدراسات السياسية والمؤسساتية
بكلية العلوم القانونية والاقتصادية
والاجتماعية أكدال الرباط