Saturday 16 August 2025
كتاب الرأي

عبد العزيز الخبشي: مروان البرغوثي.. أسير الإرادة الذي لم تنكسر

 
 
عبد العزيز الخبشي: مروان البرغوثي.. أسير الإرادة الذي لم تنكسر عبد العزيز الخبشي
 حين تنظر إلى وجه مروان البرغوثي، كما بدا في هذه الصورة، لا ترى مجرد ملامح رجل أنهكته سنوات الأسر الطويلة، بل تلمح خلف تلك العيون الهادئة اتساع أفق المقاومة، ورسوخ قناعة بأن الحرية الحقيقية تبدأ من الداخل، من الصمود أمام كل أشكال القهر. هذه العيون ليست كسائر العيون؛ هي مرايا لتاريخ طويل من المواجهة، لأيام وليالٍ ثقيلة عبرت عليه في زنزانة ضيقة، لكنها لم تنجح في كسر عزيمته أو إطفاء بريقه النضالي. جبينه، الذي يعلوه وقار التجربة وعمق الألم، يشهد على حكاية رجل لم يختر الاستسلام، بل اختار أن يكون رمزاً شامخاً لجيل كامل آمن بأن فلسطين لا تُستعاد إلا بالمقاومة والثبات.
 
الأسى يتسلل إلى القلب وأنت تدرك أن هذا القائد، الذي حمل هموم شعبه في كل موقع، يقضي أجمل سنوات عمره خلف القضبان، فيما يتنعم الجلادون بثمار احتلالهم. الأسى لأن العالم، رغم كل ما يتشدق به من شعارات عن حقوق الإنسان، يقف صامتاً أمام استمرار اعتقال رجل حمل قضية شعبه بجرأة نادرة، وصاغ بدمه وتضحياته ما عجزت الكلمات عن صياغته. لكن هذا الأسى لا يلبث أن يمتزج بالفخر، حين تستحضر أن البرغوثي، ورغم العزلة والجدران، ما زال قائداً حاضراً في ضمير شعبه، وملهماً للأحرار في كل مكان.
 
لقد شكّل مروان البرغوثي ظاهرة استثنائية في النضال الفلسطيني، ليس فقط لأنه واجه الاحتلال على الأرض، بل لأنه مثّل نموذج القائد الذي يجمع بين الفكر والعمل، بين الإيمان العميق بعدالة القضية وبين الجرأة في خوض معاركها. لم يكن مجرد سياسي تقليدي يفاوض على الفتات، بل كان من أولئك الذين يدركون أن المساومة على الحق تعني التنازل عن الروح. هذا الوعي جعل منه هدفاً مباشراً للاحتلال، الذي اعتقله عام 2002، وحكم عليه بالسجن المؤبد، في محاولة لإقصائه عن الساحة وإخماد تأثيره. لكن المفارقة أن السجن لم يكن نهاية لمسيرته، بل تحوّل إلى منصة أخرى لصوته، صوت يخرج من بين الجدران ليذكّر العالم أن الأسرى الفلسطينيين ليسوا أرقاماً، بل هم أحياء نابضون بالكبرياء.
 
البرغوثي لم يختفِ في الظل، بل صار أيقونة تجمع حولها أطياف الشعب الفلسطيني بمختلف توجهاتهم. قدرته على توحيد الصفوف، وخطابه الذي يستند إلى وحدة الهدف، جعلاه رمزاً لوطنية تتجاوز الانقسام. في زمن الانكسارات، ظل مروان صلباً، يكتب رسائل من السجن تحمل الأمل والتحدي، مذكّراً بأن القضية لم تمت، وبأن النضال مستمر ما دام الاحتلال قائماً.
 
إن قراءة سيرة البرغوثي لا يمكن أن تنفصل عن السياق الأوسع للنضال الفلسطيني، حيث يتجسد فيه نموذج الأسير المقاوم الذي لا يُهزم إلا إذا خان نفسه. ولأنه لم يخن، فقد ظل شوكة في حلق الاحتلال، وإزعاجاً دائماً لآلة القمع الصهيونية. حتى ملامحه اليوم، وقد خطّ الزمن فيها تفاصيله، تحمل في طياتها لغة المقاومة؛ لغة الصمت الذي يصرخ، والهدوء الذي يتحدى، والعين التي تفضح زيف القوة أمام عظمة الصمود.
 
لكن النقد هنا، الممزوج بالأسى، يتجه إلى العالم المتحضر المزعوم، وإلى القيادات العربية والدولية التي اكتفت بمواقف رمزية، وبيانات جوفاء، بينما يقضي القادة الميدانيون أمثال البرغوثي أعمارهم خلف القضبان. هذا الصمت المخزي يعكس حقيقة ميزان القوى في السياسة الدولية، حيث لا مكان للعدالة ما لم تدعمها القوة، وحيث تتحول معاناة الشعوب إلى مجرد أرقام في نشرات الأخبار. إن بقاء البرغوثي في الأسر كل هذه السنوات ليس دليلاً على قوة الاحتلال بقدر ما هو شهادة على تقاعس الإرادة العالمية في نصرة الحق الفلسطيني.
 
ورغم ذلك، يظل مروان البرغوثي شاهداً على أن الكرامة الإنسانية قادرة على تحدي الحديد والنار. من زنزانته الضيقة، يرسل إلينا صورة رجل لم ينكسر، بل ازداد صلابة. رجل يعرف أن الحرية ليست منحة من الاحتلال، بل حق يُنتزع. هذه الحقيقة التي يجسدها البرغوثي في حياته، وفي صورته الأخيرة، يجب أن تكون جرس إنذار لكل من يظن أن النضال قد انتهى أو أن القضية قد طواها النسيان.
 
إنها صورة ليست كغيرها، لأنها تلتقط لحظة يلتقي فيها الحزن بالشموخ، والألم بالفخر، والأسى بالأمل. صورة تقول لنا إن القادة الحقيقيين لا يغيبون عن شعوبهم، حتى لو غابت أجسادهم خلف القضبان. مروان البرغوثي، أبو القسام، سيبقى، ما بقيت فلسطين، رمزاً للحرية التي لا تموت، وللإرادة التي لا تُقهر، وللوطنية التي لا تعرف المساومة. لقد كتب فصلاً من تاريخ فلسطين بدمه وصبره، وسيظل اسمه محفوراً في وجدان كل من يؤمن أن الكرامة أثمن من الحياة.