في الوقت الذي تستعد فيه البلاد لدخول سنة انتخابية جديدة، تتسارع التحركات داخل الساحة السياسية بوتيرة لافتة، وتطفو على السطح موجة من الاستقالات والتنقلات الحزبية التي لم تعد تقتصر على أفراد محدودين أو على حالات معزولة، بل أصبحت ظاهرة عامة تستدعي القراءة والتأمل، خصوصاً وأنها تحدث في توقيت بالغ الحساسية، يسبق الاستحقاقات المقبلة بأشهر معدودة. ومن موقع التجربة التي راكمتها في المجال السياسي، ومن قلب جهة سوس ماسة التي أعيش فيها تفاصيل المشهد عن قرب، أرى أن هذه التحركات لا يمكن اختزالها في قرارات شخصية أو ردود فعل فردية، وإنما تندرج في إطار تكتيكات محسوبة بدقة، قد تهدف إلى إعادة رسم الخريطة الحزبية، أو إضعاف بعض الكيانات لصالح أخرى، أو حتى إعادة توزيع الأدوار بين الفاعلين بما يتلاءم مع مصالح دوائر محددة. هذه الظاهرة، في جوهرها، ليست جديدة على المشهد السياسي المغربي، لكنها اليوم تأخذ شكلاً أكثر تنظيماً واحترافية، حيث يتم تسويقها للرأي العام على أنها دينامية طبيعية أو مؤشر على حيوية المشهد، بينما هي في الحقيقة جزء من عملية إعادة إنتاج لنفس الأعطاب السياسية التي كبلت هذا الوطن لعقود. فالوجوه هي ذاتها، والخطابات لم تتغير، والممارسات ما زالت أسيرة منطق الغنيمة والتدافع على المناصب، لا منطق بناء المشروع المجتمعي. الأخطر في الأمر أن المسؤولين على التنظيمات السياسية، بدل الانفتاح على النخب الفكرية والشبابية والفاعلين المدنيين، يصرون على الانغلاق داخل دوائرهم الضيقة، وعقد الاجتماعات المغلقة التي تفتقد لأي مضمون تغييري، وتغليب الحسابات الشخصية على المصلحة العامة. وكأن السياسة تحولت إلى نادٍ مغلق، لا يلجه إلا من يملك ولاءً مطلقاً للقيادة أو قدرة على المناورة في الكواليس، أما الكفاءات المستقلة وأصحاب الرؤى الإصلاحية، فمكانهم خارج الصورة. ومن خلال متابعتي، ألاحظ أن هذه الأساليب التغييبية ليست مجرد ارتجال أو ضعف في التدبير، بل هي جزء من استراتيجية واعية لإقصاء كل ما يمكن أن يشكل تهديداً لترتيبات ما بعد الانتخابات، حتى وإن كان ذلك على حساب ثقة المواطنين بالعملية السياسية برمتها. هذه الاستقالات والتنقلات بين الأحزاب، أو الانسحاب الكامل من المشهد، ليست سوى واجهة لعمليات أعمق من تبادل النفوذ، وإعادة ترتيب الصفوف وفقاً لمعادلات غير معلنة، تُدار بعيداً عن أعين الرأي العام، لكنها تنعكس بشكل مباشر على طبيعة النتائج التي ستفرزها صناديق الاقتراع لاحقاً. وما يزيد من قتامة هذا المشهد هو أن كل هذه الممارسات تعيدنا إلى نص سياسي قديم، حفظناه جميعاً عن ظهر قلب، يُعاد عرضه اليوم بلمسات شكلية جديدة، وكأننا أمام إنتاج فني يغير الديكور والملابس، لكنه يحتفظ بنفس الحبكة ونفس النهاية المتوقعة. وبينما يوهموننا بأننا أمام تغيير أو تجديد، فإن الحقيقة الصادمة هي أننا ندور في حلقة مفرغة، حيث تتغير الأسماء والشعارات، لكن السياسات والممارسات تبقى على حالها، بل ربما تتعمق أزماتها. هذه الصورة، بالنسبة لي، ليست مجرد تحليل عن بعد، بل هي خلاصة معايشة يومية لما يحدث على الأرض، حيث يتكرر نفس المشهد في أكثر من حزب وأكثر من مدينة، بنفس اللغة ونفس الأسلوب، حتى أصبح من الصعب التمييز بين من يرحل ومن يستقبل، وبين من يعلن القطيعة ومن يمد الجسور في الخفاء. وفي ظل هذا الواقع، يصبح السؤال الجوهري: هل نحن فعلاً على أعتاب مرحلة جديدة، أم أننا بصدد إعداد المسرح لعرض آخر من نفس المسرحية التي تابعنا فصولها مراراً؟ الإجابة، في تقديري، واضحة لكل من يقرأ ما بين السطور، ويدرك أن السياسة كما تُمارَس اليوم ليست سوى وسيلة لضمان بقاء نفس المنظومة، مهما تغيرت الوجوه والألوان، وأن التغيير الحقيقي لن يأتي من هذه التحركات الموسمية، بل من إرادة شعبية صادقة تفرض على الجميع احترام قواعد اللعبة السياسية وتغليب المصلحة الوطنية على أي اعتبارات أخرى.
