تحل اليوم الخميس ذكرى وطنية عزيزة، وهي استرجاع وادي الذهب، في مسار استكمال الوحدة الترابية، إذ بتاريخ 15 غشت 1979 خاطب الملك الراحل الحسن الثاني، أبناء القبائل الصحراوية:" إننا تلقينا منكم اليوم البيعة، وسوف نرعاها ونحتضنها، كأثمن وأغلى وديعة.
فمنذ اليوم، بيعتنا في أعناقكم، ومنذ اليوم من واجباتنا الذود عن سلامتكم والحفاظ على أمنكم والسعي دوما إلى إسعادكم. وإننا لنشكر الله سبحانه وتعالى أغلى شكر وأغزر حمد على أن أتم نعمته علينا فألحق الجنوب بالشمال ووصل الرحم وربط الأواصر".
فإذا كان المغرب تحت قيادة الملكين الراحلين محمد الخامس والحسن الثاني، نوره الله ضريحهما وخلد في الصالحات ذكرهما، قد استكمل وحدته الترابية باسترجاع كل من طرفاية، سيدي إفني، وتنظيم مسيرة خضراء سنة 1975، وأخيرا استرجاع وادي الذهب سنة 1979، فإن الملك محمد السادس، قد أطلق في العهد الجديد مسيرات تنموية حولت الأقاليم الجنوبية الصحراوية إلى لؤلؤة، وقطب اقتصادي، تنموي، استثماري، وتنافسي.
بمناسبة الذكرى الأربعون للمسيرة الخضراء، أطلق الملك، النموذج التنموي الخاص بالأقاليم الجنوبية، والذي تم توقيعه في العيون سنة 2015، والداخلة سنة 2016، خُصص له غلاف مالي يتجاوز 77 مليار درهم، إذ بلغت نسبة الالتزام حوالي 80% من مجموع الغلاف المالي المخصص له كما جاء في خطاب المسيرة الخضراء سنة 2022.
"دبلوماسية تنموية تعزز الإشعاع القاري والدولي للأقاليم الجنوبية":
ما يهمنا في هذا التحليل هو إقليم وادي الذهب، وعليه سنعمل على تسليط الضوء على أهم المشاريع التي تم إطلاقها في جهة الداخلة وادي الذهب، وذلك من خلال ما يلي:
من بين الأمور المهمة التي تم إطلاقها، نجد الطريق السريع تزنيت الداخلة، الذي بلغت تكلفته حوالي 10 ملايير درهم سيعزز من الروابط الاقتصادية والتجارية بين المغرب وعمقه الإفريقي، وربط المنطقة بالشبكة الكهربائية الوطنية، ثم تقوية وتوسيع شبكات الاتصال.
وفي إطار التنزيل الاستراتيجي ل"الجيل الأخضر" و"أليوتيس"، تمت برمجة العديد من الأوراش الكبرى التي تخدم التنمية الفلاحية، من قبيل محطة تحلية مياه البحر بالداخلة، مزودة بحقل ريحي وشبكة ري حديثة، بشراكة بين القطاعين العام والخاص، إذ خصص لها غلاف مالي يقدر ب 2,6 مليار درهم، كما نجد قنوات التسويق الخاصة بالمنتجات الفلاحية، كما تم توفير وتطوير أزيد من ستة آلاف هكتار، بالداخلة وبوجدور، ووضعها رهن إشارة الفلاحين الشباب، من أبناء المنطقة، بالإضافة إلى وحدة صناعية مخصصة لتثمين الموارد البحرية، إلى جانب إعطاء انطلاقة برنامج توزيع أجهزة إرسال الإغاثة لتحديد الموقع عبر الأقمار الاصطناعية في حالة الحوادث في عرض البحر لفائدة قوارب الصيد التقليدي.
تماشيا مع أهداف التنمية المستدامة، تم إطلاق مشاريع الطاقات المتجددة بالأقاليم الجنوبية (الطاقة الشمسية والريحية)، كما يعتبر خليج وادي الذهب موقعا ذا أهمية بيولوجية وإيكولوجية، إذ يخضع للعناية من طرف مؤسسة محمد السادس لحماية البيئة.
أضف إلى ذلك، تم الاعتماد على الاقتصاد الأزرق والسياحة الشاطئية والصحراوية.
كما استفادت جهة الداخلة وادي الذهب من مشاريع المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، لاسيما مشاريع سوسيو اقتصادية من قبيل تقديم الدعم لمراكز غسيل الكلى ومراكز استقبال وإيواء الأطفال المهجورين، وأطفال التوحد، بالإضافة لمرافق رعاية مدمني المخدرات، كما تم إطلاق مشاريع تهم تحسين الدخل والإدماج الاقتصادي للشباب، من دعم مبادرات التشغيل الذاتي، كل هذا يصب في اتجاه تحسين ظروف عيش الساكنة الصحراوية والرفع من معدل النمو الاقتصادي.
وفي الجانب التعليمي، توجد بجهة الداخلة وادي الذهب، المدرسة الوطنية للتجارة والتسيير، والمدرسة العليا للتكنولوجيا، كما سيتم افتتاح كلية الطب، كلية العلوم التمريضية ومهن الصحة، والمدرسة العليا للمهندسين، أما في الجانب الصحي ففي أفق تعزيز العرض الصحي وتحقيق العدالة المجالية وتحقيق التنمية الصحية، سيتم تدشين المركز الاستشفائي الجامعي بالجهة، وفي الجانب الثقافي يتم النهوض باللغة والثقافة الحسانية.
وحسب خطاب المسيرة الخضراء سنة 2023 فقد أكد جلالة الملك حفظه الله ورعاه أنه سيتم التفكير في تكوين أسطول بحري، تجاري وطني قوي، وتنافسي.
"العمق المغربي الإفريقي : تعاون جنوب جنوب":
هناك ثلاثة مشاريع مهمة حاليا ستعزز من العمق المغربي الإفريقي، نجد:
- ميناء الداخلة الأطلسي، الذي سيعزز الواجهة الأطلسية للأقاليم الجنوبية على غرار ميناء طنجة المتوسطي الذي عزز الواجهة المتوسطية للمغرب، وبالتي سيساهم في الزيادة من نسبة الاستثمارات الأجنبية المباشرة، والتجارة الدولية، بالإضافة سيكون له تأثير قوي على الجانب اللوجستي، فإذا كان ميناء طنجة المتوسطي يربط المغرب بأوروبا، فإن ميناء الداخلة الأطلسي، سيربط المغرب ببيته الإفريقي وكذا أمريكا.
- أنبوب الغاز المغرب نيجريا هو مشروع للاندماج الجهوي والإقلاع الاقتصادي المشترك وتشجيع دينامية التنمية على الشريط الأطلسي دون أن ننسى أنه سيشكل مصدرا مضمونا لتزويد الدول الأوروبية بالطاقة.
- المبادرة الأطلسية الملكية بغية توطيد الأمن والاستقرار والتنمية المشتركة مع 23 دولة إفريقية مطلة على المحيط الأطلسي مع اقتراح تمكين دول الساحل من الولوج إلى المحيط الأطلسي، لأن مشاكل دول الساحل لا يمكن حلها بالمقاربة الأمنية والعسكرية فحسب، بل بالمقاربة التنموية أيضا، هنا نجد رؤية الملك الذي يريد الخير لإفريقيا ككل، وهنا نفتح قوس مهم، بأن سياسة اليد الممدودة تجاه الجزائر التي نهجها سليل آل البيت الشريف أمير المؤمنين تصب في نفس الإتجاه، فقد سبق لجلالته أن أكد بأن المغرب يريد الخير للجزائر ولن يكون مصدر شر لها، وبالتالي فالمبادرة الأطلسية ستخدم أيضا اتحاد المغرب العربي، فخطاب المسيرة الخضراء سنة 2024 كان واضحا حيث قال الملك :"...وهناك من يستغل قضية الصحراء للحصول على منفذ على المحيط الأطلسي. لهؤلاء نقول: نحن لا نرفض ذلك؛ والمغرب كما يعرف الجميع، اقترح مبادرة دولية، لتسهيل ولوج دول الساحل للمحيط الأطلسي، في إطار الشراكة والتعاون، وتحقيق التقدم المشترك، لكل شعوب المنطقة...".
"الجهوية المتقدمة رافعة أساسية لتنمية الأقاليم الجنوبية ":
كما أشرنا سابقا بأن المغرب استرجع إقليم وادي الذهب سنة 1979، في هذه الفترة بالذات، كان المغرب قد خاض تجربة الجهات الاقتصادية كنقطة انطلاقة للجهوية بالمغرب عبر ظهير 16 يونيو 1971، إلا أن الجهات كانت لا تعتبر جماعة محلية une collectivité locale لم يكن منصوص عليها لا في دستور 1962، 1970، و1972، بحيث جاء الإقرار الدستوري بها كجماعة محلية في دستور 1992 وأصبحت لها تمثيلية في مجلس المستشارين في دستور 1996، وبعد مرور سنة صدر القانون 47.96 المنظم للجهات، لكن ما يمكن القول على هذه الفترة بالذات، أننا كنا أمام جهوية لازالت في طور التأسيس.
مع دستور 2011 أصبحنا نتحدث عن الجهوية المتقدمة الذي خصص لها باب كاملا وهو الباب التاسع، والتي جاءت تتويجا لعمل اللجنة الاستشارية التي عينها الملك سنة 2010.
مع صدور القوانين التنظيمية للجماعات الترابية لاسيما القانون التنظيمي 111.14 المتعلق بالجهات، أصبحنا أمام جهوية حقيقية، أصبحنا أمام مفهوم التدبير الحر، وأصبح للجهات اختصاصات ذاتية قوية، من قبيل إعداد برنامج التنمية الجهوية، والتصميم الجهوي لإعداد التراب، واختصاصات مشتركة مع الدولة وأخرى منقولة من طرف هذه الأخيرة، بحيث كل هذا ساهم في إنجاح النموذج التنموي بالأقاليم الجنوبية، دون أن ننسى نقطة مهمة تدعيم ورش الجهوية المتقدمة باللاتمركز الإداري، فنجاحها رهين به وهذا ما أكد عليه جلالة الملك في خطاب المسيرة الخضراء سنة 2008، بحيث صدر المرسوم 2.17.618 بمثابة الميثاق الوطني للاتمركز الإداري الذي يعتبر دعامة أساسية لإنجاح مسلسل اللامركزية الإدارية في شقيها الترابي والمرفقي.
" الدعم الدولي المتزايد للأقاليم الجنوبية القنصليات نموذجا ":
أصبحت العديد من الدول تدعم مبادرة الحكم الذاتي التي تقدم بها المغرب سنة 2007، ومنذ سنة 2019 إلى اليوم، أصبح هناك توجه جديد يتمثل في دبلوماسية القنصليات عبر فتح القنصليات بكل من العيون والداخلة، هذه السياسة تتماشى مع القانون الدولي أولا لاسيما اتفاقية فيينا للعلاقات القنصلية، وتمثل تعبيرا واضحا عن دعم سيادة المغرب على صحرائه، بل أكثر من ذلك أنها ستزيد من نسبة الاستثمارات الأجنبية المباشرة على الأقاليم الجنوبية.
إن الأقاليم الجنوبية، وبالأخص جهة الداخلة وادي الذهب أصبحت تعرف زخم كبير من الاستثمارات الأجنبية المباشرة بفضل المناخ المحفز والمؤهلات التي تزخر بها المنطقة، فعلى الصعيد المؤسساتي، تعتبر المراكز الجهوية للاستثمار المخاطب الأول للمستثمرين، والتي أُحدثت بموجب الرسالة الملكية الموجهة للوزير الأول سنة 2002، وأصبح لها قانون خاص بها وهو القانون 47.18، دون أن ننسى الإطار التشريعي، القانون الإطار 03.22 المتعلق بميثاق الاستثمار، كل هذا مكن المغرب من أن يصبح الوجهة المفضلة للمستثمرين، مما انعكس بالإيجاب على نسبة النمو وعلى الجانب الاجتماعي بهذه الأقاليم.
في الختام، إن الأقاليم الجنوبية (جهة الداخلة وادي الذهب نموذجا)، أصبحت ذات إشعاع قاري ودولي، تحت القيادة الرشيدة والمتبصرة للمؤسسة الملكية، وأصبحت الأقاليم الجنوبية تنافس العواصم الكبرى في العالم.
إذا كان الملك الراحل الحسن الثاني طيب الله ثراه قاد مسيرة خضراء لتحرير الأقاليم الجنوبية من الاستعمار الإسباني، فإن الملك محمد السادس، أمره قاد مسيرات تنموية في العهد الجديد جعلت من الأقاليم الجنوبية رافعة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية.
إن الرؤية الملكية استهدفت تقوية الجبهة الداخلية للأقاليم الجنوبية وكسب الدعم الدولي مما نتج عنه إطلاق العديد من المشاريع الكبرى، وتدشين القنصليات وجلب الاستثمارات، كل هذا عزز من الواجهة الأطلسية للصحراء المغربية.
البشير الحداد الكبير، دكتور في القانون العام.
