ما أبدأ به هذه المقالة، هو أن قراءةَ القرآن الكريمَ بتدبُّرٍ وتمعُّن، من أول سورة إلى آخِرِ سورة منه، تُبيِّن لنا أن اللهَ، سبحانه وتعالى، يريد الخيرَ لعبادِه، بعد أن بين لهم، في نفس القرآن ما هو الخير وما هو الشر. وبعبارةٍ أخرى، بيَّن للناس طريقَ الخير وطريقَ الشر. وبعد هذا التِّبيان، ترك لهم الفرصةَ لاختيار أياً من الطريقين سيسلكون. هل طريق الخير أم طريقَ الشر؟ كيف يتم الاختيار أو على ماذا سيعتمِد الناس لحسم الاختيار؟
بالطبع، الاختيار بتمُّ اعتمادا على العقل. والعقل، بفضل ما بناه من خلفيات فكرية، اجتماعية وثقافية، يستطيع أن يختارَ إما طريق الخير وإما طريق الشر. فما هو الخير وما هو الشر؟
بصفة عامة، الخير هو كل ما هو طيِّب، أي كل ما ترغب فيه النفس البشريةُ لتكونَ في أحسن الأحوال نفسياً ومادِّياً. نفسِيا، الشعور براحة البال بعيدا عن كلِّ ما يُقلِق أو يُحزِن. مادياً، تأكل عندما تجوع وتشرب عندما تعطش وتسد كل الرغبات المادية المساعِدة على توفير الراحة النفسية. ولهذا، فالأخلاقُ الحميدة خيرٌ. وما ينفع الناسَ، في حياتِهم اليومية، سواءّ من الناحِية المادية أو المعنوية، فهو خيرٌ. فمن الناحية المادية، المال خيرٌ، والطعام خيرٌ والسيارة خيرٌ وكل وسائل التنقل خيرٌ… أما من الناحية المعنوية، فكل ما يتماشى مع الراحة النفسية، فهو خيرٌ كالصِّدق والاستقامة والنزاهة والعدل والفكر النقدي…
ولهذا، فكل ما فيه نفعٌ وصلاحٌ وسعادة وفرح وما يُوفِّر صحةَ النفس وألجسد، فهو خيرٌ. وبصفة عامة، كل ما يُفرِح الناسَ ويُدخِل عليهم السعادة ويجلُب لهم النَّفعَ، فهو خيرٌ.
ولو لم يُرِدِ اللهُ، سبحانه وتعالى، الخيرَ لعِباده، فلماذا بعث، عزِّ وجلَّ، للناس أنبياءَ ورُسُلاً مُبشرين ومُنذرين؟ مبشرين ليُبيِّنوا للناس طريق الخير، ومنذرين ليُبيِّنوا لهم طريقَ الشر.
أما الشر، فهو كل ما يتضاد، فكريا، مع الخير. والأشياء التي تتضادُّ، فكريا، مع الخير، يمكن تلخيصُها في كيفية السلوك ونوعية الأفعال، أي السلوك والأفعال التي تلحِق الأذى أو الأضرارَ بالنفس البشرية وبالآخرين. وفي هذا الصدد، يمكن ذكر الفساد والظلم والتَّعسُّف والاستبداد والاعتداء والكذب والعُنف والسرقة…
ورجوعاً إلى عنوان هذه المقالة، ما يُثير الانتباهَ، هو أن بعضَ علماء وفقهاء الدين، أفتوا بتحريم الموسيقى والغناء، بينما آخرون أفتَوا بإباحَتِها. السؤالان اللذان، من المفترض، طرحُهما، هنا، هما : 1."هل غيَّر الإفتاء بالتَّحريم شيئا في التَّعامل مع الموسيقى والغناء، في الواقع اليومي للناس المسلمين"؟ 2."على ماذا اعتمد علماء وفقهاء الدين الذين أفتوا بالتَّحريم"؟
جوابا على السؤال الأول، أي "هل غيَّر الإفتاء بالتَّحريم شيئا في التَّعامل مع الموسيقى والغناء، في الواقع اليومي للناس المسلمين"؟ أقول وأعيد، لا شيءَ تغيَّر، على الإطلاق. الناس المسلمون يسمعون الموسيقى ويرقصون ويُغنُّون على نغماتها. بل أكثر من هذا، من بين المسلمين، هناك مَن يسمع، فقط، جميع أنواع الموسيقى التي هي من إنتاج مَن يعتبرهم علماءُ وفقهاءُ الدين كفَّاراً. بل إن كان هناك إبداع بالمعنى الأدبي، فصُنَّاع الموسيقى. الغناء، هم مَن يُتقنون الإبداعَ.
وجواباً على السؤال الثاني، أي "على ماذا اعتمد علماء وفقهاء الدين الذين أفتوا بالتَّحريم"؟
على ما يبدو أن علماءَ وفقهاءَ الدين الذين أفتوا بتحريم الموسيقى أو المعازف، كما يقول هؤلاء العلماء والفقهاء، اعتمدوا على الآية الكريمة رقم 6 من سورة لقمان التي نصُّها هو : "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ".
فهل ذكر الله، سبحانه وتعالى، في هذه الآية الكريمة المعازف والغناء؟ لا، لم يذكرهما. إذن، إقْحَام الموسيقى والغناء، في هذه الآية، هو من اجتهاد علماء وفقهاء الدين الذين جاءوا من بعد وفاة الرسول (ص). إذن، لا توجد، في هذه الآية الكريمة، إشارة واضِحة وصريحة لا للمعازف، كما سماها علماء وفقهاء تحريمِها، ولا للغناء. "فما الذي جعل علماءَ وفقهاءَ الدين يُقحِِمون المعازف والغناء في هذه الآية الكريمة"؟
في نظري، في تلك الفترة من الزمان، كان نشرُ رسالة الإسلام في بدايته. كما كان المسلمون الأوائل، حسب فهمهم لهذه الرسالة، يظنون أن نشرَها أمانةٌ في عنُقِهم. ولهذا، كان هذا النشرُ يشكِّل عند هؤلاء المسلمين الأوائل أولوية الأولويات. فكانوا يظنون أن كل ما كان يُلهي الناسَ عن الاهتمام برسالة الإسلام، فهو محرَّمٌ. ومن ضمن ما كان يُلهي الناسَ عن الاهتمام برسالة الإسلام سماع الموسيقى والغناء.
ولهذا، فالآية رقم 6 من سورة لقمان تبيِّن أنه، من بين ما كان يُسِيءُ لنشر رسالة الإسلام، الأحاديث التي كانت تدور بين الناس والتي كانت تُشوِّه صورة الإسلام وتُسيء للرسول (ص). وهنا، لا تَفوتُني الفُرصة لأقولَ أن سماعَ الموسيقى والغناء كان شأناً يدخل في نطاق التقاليد والثقافة التي كانت سائدةً في تلك الفترة من الزمان. فمن الطبيعي أن يعتَبِرَ علماءُ وفقهاءُ الدين، في ذلك العصر، هذا السماعَ عائقاً لنشر رسالة الإسلام.
غير أن تحريم الموسيقى والغناء لم يعتمد فقط على الآية رقم 6 من سورة لقمان. بل اعتمدوا على أحاديث نبوية. غير أنه لا يوجد دليلٌ قاطعٌ يبيِّن، بوضوح، أن الرسول (ص) نطق فعلا بهذه الأحاديث أو هي، فقط، منسوبةٌ إليه لغرض أو أغراض مختلِفة.
وما أريد أن أُلحَّ عليه وكما أشرتُ له في بداية هذه المقالة مباشرةً بعد العنوان، أن اللهَ، سبحانه وتعالى، يريد الخيرَ لعباده. والخير، كما سبق الذكرُ، هو كل ما فيه نفعٌ وصلاحٌ وسعادة وفرح وما يُوفِّر صحةَ النفس وألجسد. والدليل على ذلك أن كثيرا من الابحاث والدراسات بيَّن أن الونيسقى والغناء يُستعملان للتَّخفيف من الضغط le stress وللتَّخفيف من مُضاعفات الأمراض النفسية والقلق وتحسين المِزاج l'humeur…
فهل يُعقلُ أن مَن اختاره اللهُ، سبحانه وتعالى، وكلَّفه بنشر رسالة الإسلام أن يقفَ ضدَّ الإرادة الإلهية المتمثِّلة في إسعاد الناس في الدنيا قبل الآخِرة. وبالضبط، أن يُحرِّمَ عليهم المعازف (الموسيقى) والغناءَ اللذان كانا ولايَزالاَ عاملين من عوامل إدخال السعادة والفرح في نفوس البشر.
وهل يُعقَلُ أن مَن اختاره اللهُ، سبحانه وتعالى، وكلَّفه بنشر رسالة الإسلام أن يقفَ ضدَّ الإرادة الإلهية التي وردت في الآية رقم 49 من سورة الذاريات، المتمثِّلة في خلق الأشياءِ وأضدادِها : "وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ". بمعنى أن الله، سبحانه وتعالى، هو الذي خلق السعادة وضدَّها التعاسة، وهو الذي خلق الخيرَ وضدَّه الشر، وهو الذي خلق الفرحَ وضدَّه الحزن، وهو الذي خلق اليُسرَ وضدَّه العُسر… أليست المعازف (الموسيقى) والغناء عاملين من عوامل إدخال السعادة والفرح في نفوس البشر. فكيف للرسول (ص) أن يخالف ما أراده الله، سبحانه وتعالى، من خيرٍ لعِباده، وهو الذي قال في حقه، عزَّ وجلً : "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ" (الأنبياء، 107).
حاشا أن يخالفَ الرسولُ (ص) ما نصَّ عليه الوحيُ المنزَّل من عند الله، عزَّ وجلَّ، أي القرآن الكريم. فكيف للرسول (ص) أن بكونَ رحمةً لجميع الناس (لِّلْعَالَمِينَ) ، وفي نفس الوقت، يُحرِمهم مما يُدخِل عليهم السعادةَ والفرحَ، هذا إن لم يُحرِمهم من علاج بعض الأمراض النفسية.
ولا داعِيَ للقول أن الموسيقى والغناء أصْبَحا، في عصرنا الحاضر، علما قائمَ الذات، يُدرَّس في جامعات العالم بأسره. بل الموسيقى والغناء أصبحا صناعة قائمةَ الذات une industrie au sens propre du terme. بل يمكن اعتبارُهما رافعتين deux leviers من رافعات الاقتصاد العالمي، بحٌكم ما تُذرُّه من عائدات des revenus مهمة، وما تخلُقُه من مناصب الشغل وما تُنشِّطه من قطاعات اقتصادية أخرى. وعالم الموسيقى والغناء يتميَّز، كما هو الشأن بالنسبة لقطاعاتٍ صناعية أخرى، بالإبداع la création وتحقيق الإنجازات la réalisation des performances والإنتاج la production والتَّوزيع la distribution. ولهذا، الموسيقى والغناء يُساهِمان في خلق الثروة la création de la richesse، وكذلك، في النماء الاقتصادي la croissance économique، بل ويَنهضان بالسياحة الثقافية le tourisme culturel.
ولهذا، إذا كانت الظروف الاجتماعية والدينية، في عصر الرسول (ص) وبعد وفاته، تتطلَّب تحريمَ الموسيقى والغناء من أجل نشرِ رسالة الإسلام، فهذه الظروف أصبحت، اليوم، مُتحاوزة نظرا للادوار التي أصبحت تلعبه الموسيقى ويلعنه الغناءُ، ليس فقط في الترفيه عن النفس، ولكن، كءلك، في الاقتصادات الوطنية.