Friday 25 July 2025
سياسة

اليسار الراديكالي والدين الشعبي.. الخبشي يتفاعل مع أبوعلي بلمزيان حول الموروث الديني المغربي

اليسار الراديكالي والدين الشعبي.. الخبشي يتفاعل مع أبوعلي بلمزيان حول الموروث الديني المغربي علي بلمزيان وفي الإطار عبد العزيز الخبشي
على هامش ما نشرته جريدة "أنفاس بريس" يوم الأربعاء 23 يوليو 2025، من التقاط بخصوص مداخلة علي بلمزيان، الكاتب الجهوي بجهة الشمال لحزب النهج الديمقراطي العمالي، ضمن ندوة رقمية حول تخليد ذكرى ملحمة أنوال، والتي أشار فيها  إلى الإطار المرجعي لحركة المقاومة لمحمد بن الكريم الخطابي ونظرته للموروث الديني المغربي، وقع تفاعل بشأن هذا الحدث، والذي كان من أبرزه مقال عبد العزيز الخبشي تحت عنوان "اليسار الراديكالي والدين الشعبي: في مديح ثورة أبوعلي بلمزيان الصامتة".
تفاعلا مع النقاش الذي تركته المداخلة، تنشر جريدة
"أنفاس بريس" وجهة نظر عبد العزيز الخبشي، التي نشرها بحسابه بالفايسبوك:
 
 
تأتي مداخلة الرفيق المناضل علي بلمزيان، الكاتب الجهوي بجهة الشمال لحزب النهج الديمقراطي العمالي، ضمن الندوة الرقمية التي خُصصت لتخليد ذكرى ملحمة أنوال، بوصفها لحظة فارقة في تاريخ اليسار المغربي، ونقلة نوعية في علاقة اليسار الجذري بالدين الشعبي كما تَجسّد في تجربة محمد بن عبد الكريم الخطابي. إنها ليست مجرد قراءة تأملية لماضي المقاومة، بل هي فعل تجديدي، وخطاب يُعلن القطيعة مع الاختزال الميكانيكي الذي طالما وسم تعاطي بعض فصائل اليسار مع الظاهرة الدينية، وخصوصًا الدين المغربي الشعبي في تجلياته الثقافية والاجتماعية.
 
لقد لمس علي بلمزيان بجُرأة فكرية وأمانة نضالية عصب الإشكال في علاقة اليسار بالدين، عبر التأكيد على أن مقاومة عبد الكريم الخطابي لم تكن فقط فعلاً عسكرياً ضد الاستعمار، بل كانت أيضًا تمظهرًا لنموذج ديني مغربي منفتح ومتسامح، دينٍ لم يتناقض مع قيم الحداثة، بل انسجم معها في صيغة مغربية خالصة حافظت على توازن دقيق بين الثوابت الدينية والرهانات التاريخية المتغيرة. وهو بذلك يعيد إلى الواجهة سؤال العلاقة الممكنة بين الدين والتحرر، بين الإسلام واليسار، بين الإيمان الشعبي والمشروع الحداثي التحرري.
 
ما طرحه الرفيق أبو علي لا يمكن أن يُقرأ إلا باعتباره ثورة فكرية هادئة تعيد الاعتبار لذلك التواطؤ النبيل الذي وُجد في قلب تجربة الريف المقاوِم، والذي جسده عبد الكريم الخطابي لا فقط كقائد سياسي أو عسكري، بل كمجتهد فكري ومجدد ديني استطاع أن يُبدع ضمن إسلام محلي متأصل، غير مستورد ولا مُقحم، صيغته صيغة أهل المغرب الذين خبروا التصوف لا كطقس طقوسي، بل كهوية روحية وثقافية جامعة، وصاغوا وعيهم الجمعي بالعدل والكرامة انطلاقاً من فهمهم الشعبي للنص الديني لا من شروحات فقه البلاط أو مقولات الفقيه الرسمي.
 
في هذا الإطار، يشكل طرح علي بلمزيان مدخلاً استراتيجياً لتفكيك الازدواجية المزيفة التي طالما وقع فيها كثير من اليساريين، حيث اعتبروا الدين، أو بالأحرى التعبيرات الشعبية للدين، خصمًا للحداثة، أو أرضًا خصبة للرجعية، دونما تمحيص تاريخي أو تحليل مادي للشروط الاجتماعية والثقافية التي أنتجت ذلك الدين الشعبي المتسامح. بينما الحقيقة أن الإسلام المغربي، بصيغته الصوفية والاجتماعية، قد شكّل أحد الحصون الكبرى في وجه الاستعمار والهيمنة الإمبريالية، وأنه في عمقه كان خطابًا للعدل والمساواة والمقاومة.
 
هذا التحول في زاوية النظر ليس تحوّلاً انتهازياً أو تكيّفاً خطابياً كما تفعل التيارات الشعبوية أو الليبرالية، بل هو عودة إلى الجذور، إلى ذلك التفاعل الحي بين الدين والتحرر كما عاشه المغاربة في معاركهم ضد الظلم والاحتلال. وهو في الآن ذاته نزعٌ للفكرة الاستعمارية التي حاولت دوماً تأبيد الفصام بين المكون الروحي والديناميكية الثورية، وكأن التدين نقيضٌ للفكر النقدي، وكأن الإيمان الشعبي حاجزٌ أمام الوعي الطبقي.
من هذا المنظور، فإن ما قدّمه أبو علي بلمزيان ليس فقط تصورًا فكريًا جديدًا داخل اليسار، بل هو أيضًا إعادة تموضع استراتيجي في الحقل الثقافي المغربي، وهو الحقل الذي ظلت تسيطر عليه قوى الرجعية الدينية مستفيدة من انسحاب اليسار أو من خطابه العدمي الرافض لأي تفاعل مع الدين خارج ثنائية الاستلاب أو الرجعية. فأن يتقدم يساري جذري من طينة بلمزيان بهذا الخطاب الجريء، فهذا يعني أن ثمة وعيًا جديدًا يتبلور داخل اليسار، وعيًا يُدرك أن المعركة من أجل التحرر لا تُخاض فقط في ساحات السياسة والنقابة، بل أيضًا في فضاءات الثقافة والدين والرموز والهوية.
 
إن انفتاح اليسار الراديكالي على الدين الشعبي، كما صاغه بلمزيان، لا يعني بأي شكل من الأشكال الانحناء أمام الإسلام السياسي أو مداهنته، بل على العكس، يشكّل هذا الانفتاح بالضبط جدارًا صلبًا أمام تسلل الإخوانية والوهابية إلى الوعي الديني المغربي. لأن الإسلام المغربي الشعبي، بإرثه الصوفي ومرجعياته الثقافية، يمثل النقيض الموضوعي لهذا الدين المستورد المعجون بالولاء للأجندات الخارجية وبثقافة التكفير والاستبداد باسم الشريعة.
 
بل إن هذا الانفتاح، الذي يظل مشروطًا بالفهم النقدي والتحليل المادي للواقع، يُعيد الدين إلى الناس، إلى فضائه الأصلي: فضاء الوجدان الجمعي والنضال الاجتماعي والمخيال الثقافي، بدل أن يُحتكر من طرف تجار الدين أو يُقصى من طرف النخبة المنبهرة بنماذج علمانية معزولة عن تاريخ الشعوب. فليس الدين بحد ذاته مشكلًا، وإنما المشكلة هي في من يحتكره أو يفرغه من معناه التحرري.
 
طرح بلمزيان يُلزم اليسار بمراجعة نفسه، ليس فقط في علاقته بالدين، بل في مجمل تصوره للهوية المغربية، للثقافة الشعبية، للمعنى الجماعي للحياة. وهو بهذا المعنى دعوة لتجديد الخطاب اليساري برمته، بعيدًا عن الشعارات الجوفاء أو التمترس العقائدي الذي لم يُنتج سوى العزلة والانكفاء. إن اللحظة التي أطلق فيها بلمزيان هذا التصور ليست عبثية: فهي تأتي في زمن تعيش فيه القوى السياسية التقليدية موتًا بطيئًا، وتعرف فيه الحركات الإسلامية أزمة تمثيلية خانقة، بينما يعاني اليسار نفسه من التشرذم والتكلس. لذلك فإن كل محاولة لبناء يسار جديد، يسار شعبي ومرتبط بالفعل الاجتماعي، لابد أن تمر عبر مصالحة ذكية وجذرية مع الدين الشعبي بوصفه أحد روافد الوعي التحرري المغربي.
 
هذه ليست مجرد مقاربة ثقافية أو خطابية، بل مشروع استراتيجي يعيد الاعتبار لما نسميه "العقل الشعبي"، للذاكرة الجماعية، للغة الرموز والدلالات التي تُحرّك الناس. وهذا المشروع لن ينجح إلا إذا تمسك اليسار الجذري برصيده الأخلاقي والنضالي، وابتعد عن النخبوية المعطوبة، وانفتح على الجماهير لا بتعالٍ نظري، بل بتواضع المناضلين الذين يعترفون بأن للناس حكمتهم الخاصة، وإيمانهم العميق، وتجربتهم التاريخية في التفاعل مع النص الديني والممارسة اليومية.
 
أبو علي بلمزيان، بهذا المعنى، لا يُنظّر فقط، بل يُؤسس: يُؤسس لخطاب يساري منفتح على الروح المغربية، على العمق التاريخي للمقاومة، على الإسلام الذي عاشه الفلاحون والصناع والعلماء والمجاهدون، لا على الإسلام الذي تسوّقه الأنظمة أو الجماعات المعولمة. ويكفي أن نحيل على تجربة عبد الكريم الخطابي لندرك أن هذا الإسلام، الإسلامي الشعبي، لم يكن يوماً حاجزاً أمام التقدم، بل كان حاملاً لقيم العدالة والمساواة والوحدة والتحرر.
 
إن مداخلة بلمزيان تشبه الشرارة الأولى التي قد تضيء الطريق أمام يسار مغربي جديد، يسار لا يرى في الدين تهديدًا بل رصيدًا، ولا يقف عند حدود التنديد بالرجعية، بل يشتبك في عمق الحقل الرمزي الذي طالما احتكرته قوى الظلام. في زمن الانهيارات والفراغات القاتلة، يحتاج اليسار إلى ثورات صامتة من هذا النوع، تُعيد صياغة المفاهيم، وتفتح مسارات جديدة للفعل الجماعي. ومداخلة بلمزيان ليست سوى البداية.