يعود عبد العزيز الخبشي، المهتم بالشأن العام، لأزمة العطش الحادة التي تعاني منها قرى إقليم تاونات، رغم إطلاق مشروع ملكي يهدف إلى الربط الفردي بالماء الصالح للشرب. ويبرز في هذا التصريح كيف تم تحويل هذا المشروع إلى "سقايات جماعية بالعدادات" في انحراف عن الهدف الأصلي، نتيجة سوء التدبير، وتواطؤ أو عجز المؤسسات المحلية والوطنية، وغياب الشفافية والمحاسبة. منتقدا إنكار المسؤولين للأزمة، ويعتبر أن فشل المشروع ليس تقنياً فقط بل فضيحة سياسية تمس كرامة السكان وتهدد الثقة بين المواطن والدولة. ويخلص إلى أن العدالة المائية حق أساسي، وأن استمرار الأزمة يستدعي محاسبة المتورطين وإرادة سياسية حقيقية لإنصاف سكان تاونات.
فيما يلي التصريح الكامل لعبد العزيز الخبشي:
فيما يلي التصريح الكامل لعبد العزيز الخبشي:
لم يعد العطش في قرى تاونات مجرد حالة طارئة أو أزمة موسمية، بل أصبح بنية دائمة من بنيات التهميش والخذلان التي تنخر جسد الريف المغربي، عنوانًا صارخًا لفضيحة تنموية مستمرة، وفشلاً ذريعًا في احترام إرادة الدولة كما جسدها المشروع الملكي للربط الفردي بالماء الصالح للشرب عبر العدادات الفردية. فقد أطلق هذا المشروع الطموح من طرف جلالة الملك محمد السادس نصره الله، ضمن رؤية استراتيجية تهدف إلى تقليص الفوارق المجالية والاجتماعية، وإحقاق العدالة في الولوج إلى الحق في الماء باعتباره حقا دستوريا وإنسانيا. غير أن ما جرى على أرض الواقع بتاونات لم يكن إلا صورة من صور الإجهاز على الإرادة الملكية نفسها، وتبديدا للاعتمادات المالية المرصودة، وتحريفا لجوهر المشروع بتحويله إلى “سقايات بالعداد” في سابقة عبثية، وكأننا أمام بدعة تقنية هجينة لا تمت بصلة إلى فلسفة الربط الفردي.
في مقابل وضوح الإرادة الملكية، لا نرى غير ضبابية المسؤولية الحكومية، وتواطؤ المؤسسات المفروض فيها أن تضمن الإنجاز والفعالية والنجاعة في تنفيذ السياسات العمومية. فمن أجهض التمويل؟ من حول الربط الفردي إلى سقايات جماعية؟ من خان الأمانة؟ أهي الجماعات الترابية التي غابت أو غُيبت؟ أم المكتب الوطني للكهرباء والماء الصالح للشرب الذي انشغل بتسويق خطاب تقني مفارق للواقع؟ أم وزارة الداخلية التي تخرج على الشعب في البرلمان بعبارات إنكارية فجّة تزعم أن لا عطش في تاونات ولا قرى مهمشة؟ والحال أن كل قرية في هذا الإقليم تصرخ من الجفاف، وتئن تحت وطأة الانتظار، وتستغيث في صمت صلد لا تلتقطه آذان الوزارات ولا رادارات الخطاب الرسمي.
حين تتحول مشاريع الدولة إلى أجنة مشوهة، ويتحول المشروع الملكي إلى “مولود غير شرعي سياسيًا، معاق تنمويًا، وعاق تقنيًا”، فذاك يعني أننا في قلب مأساة لا تخص البنية التحتية فقط، بل تمس بنية التدبير السياسي، وتضرب الثقة بين المواطن والدولة في مقتل. فالربط الفردي لم يكن ترفًا أو كمالًا بل ضرورة لحفظ كرامة الإنسان في قرى تاونات، التي تعاني العطش في عز الشعارات التنموية، وتعيش الذل في حضرة تقارير النموذج التنموي الجديد.
لقد سئم الناس الوعود، وكفروا بالمجالس التي لا تجرؤ على إعلان الفشل، ولا تتملك الشجاعة السياسية لتقديم الحساب. وحين يخرج وزير الداخلية، الحاكم الفعلي للشأن الترابي، لينكر عطش تاونات ويزعم بأن كل شيء بخير، فإنه يهين سكان الإقليم الذين يقطعون الكيلومترات لجلب دلو ماء، ويخون المسؤولية الدستورية الملقاة على عاتقه، ويبرر الفشل بإنكار الواقع عوض تحمل المسؤولية ومساءلة المتسببين في هذا الإجهاض المالي والارتباك التقني والتواطؤ الإداري.
أين ذهبت الميزانيات؟ وأين توقفت الأشغال؟ ومن قرر دفن مشروع العدادات الفردية وتحويله إلى “سقايات بعدادات”؟ سؤال لا يحتاج إلى لجنة تقصي الحقائق بقدر ما يحتاج إلى إرادة سياسية جريئة تنهي منطق “الهروب إلى الأمام”، وتُسائل لوبيات الصفقات التي تحولت إلى أدوات لنهب المال العام باسم التنمية. فالسقايات ليست حلا بل هي تجسيد صارخ لإخفاق الدولة في تدبير الماء كحق لا كصدقة، وكواجب لا كهبة ظرفية.
لقد قالها الشارع التاوناتي صراحة في وقفات متعددة: نحن عطاشى في زمن المشاريع الكبرى، عطاشى في ظل الاستثناء المغربي، عطاشى في ظل حكومة تفصل الرباط عن تاونات بمحيط من الصمت والاستخفاف. ولم تعد البيانات تهم، ولا الكلمات الرنانة، ولا “الخرجات الوزارية” التي تحاول تجميل العجز بالإنكار. فالمواطن لا يشرب من البيانات، ولا يروي عطشه بتقارير رسمية مكذوبة، بل يحتاج إلى الماء في صنبور بيته، كما أراده المشروع الملكي، لا ماء في صنبور جماعي يمر عبر عداد كما لو أن الساكنة تُعاقب على طلبها لحق بسيط.
العار كل العار أن يظل أطفال القرى في تاونات يسيرون الكيلومترات يوميا للظفر بقارورة ماء، وأن تعيش الأسر على وقع شاحنات صهريجية تأتي وتغيب كما تشاء، وأن تستمر الإدارات في تزيين فشلها بتعابير تقنية لا تغني من عطش. إن فشل مشروع الماء بتاونات ليس فشل قطاع تقني فقط، بل فضيحة سياسية كاملة الأركان، تستدعي استقالة كل من تورط في هذه المهزلة، بدءا من مسؤولي الجماعات الذين انخرطوا في الصمت أو التواطؤ، مرورا بإدارات الماء التي فاوضت على روح المشروع، وانتهاء بالوزارة الوصية التي تقف اليوم في قبة البرلمان كمن يكذب على الأحياء ويدفن الحقيقة في رمال العطش.
إن الماء في تاونات قضية كرامة، لا مجرد نقطة في دفتر الحسابات، ومن لم يستطع أن يضمن لهذه الساكنة حقها في الحياة فليغادر، وكفى من شعارات التنمية التي لا تنقذ طفلًا من ظمأ، ولا تزرع أملا في صدر عجوز عطشان. فإما أن تتحقق العدالة المائية وإما أن يرحل الجميع دون استثناء.