Thursday 12 June 2025
كتاب الرأي

عبد الواحد الفقيهي: الكانون.. موقد الطين ودفء الذاكرة

عبد الواحد الفقيهي: الكانون.. موقد الطين ودفء الذاكرة عبد الواحد الفقيهي
في مدشر منسي على سفوح أنجرة، بين الحقول التي تتكئ على صمت البحر، كنت أجلس قرب الكانون، موقد الطين والرماد، في بيت الجدة.. وذاك البيت لم يكن جدرانا فقط، بل صدر مفتوح على الدفء، وعلى طقس من الحنان الدائم.
الكانون دائرة تتسع للحكايات. هو خشب مشتعل تحت طنجرة الفول، أو تحت خبزة تسحبها الجدة من "الوصلة" برشاقة الأمومة. هو لهب خافت في زاوية البيت الطيني، يشبه همس الجدة حين تحكي عن زمن الرعي، وعن المطر الذي كان يأتي دون أن إشعار.
كنا نتحلق حوله، نحن والأواني، والضحكات، والصمت الجميل. خالتي تسكب الشاي، عمتي تقشر الخضر، وأنا أراقب الجمر وهو يتنفس تحت الرماد، كقلب لا يهدأ، ولا ينطفئ. والجدة تمسك بقطعة جمر بكفها المجعدة وتقول: "ما تخافش... النار للي ليعرفا، ما تحرقوشي."
رائحة الكانون فسيفساء عجيبة: خشب الشجر اليابس، بخار الكسكس، طين الجدران، دخان الخبز، وحتى ملح العرق الذي يتبخر من جبين الجدة وهي تحرك الملعقة في القدر. ذلك العطر، لم يكن عطر طعام، بل كان عطر الروح.
الكانون، في طقوسنا، لم يكن مجرد وسيلة طبخ. كان توقيتا زمنيا: نشعل الحطب قبيل الفجر، نعد الفطور، ثم نغلق فتحة الجمر بعد الظهر. هو ساعة القرية قبل الكهرباء، وهو مذياعها قبل الأخبار، وهو حاضن الشتاء.
وكان له طقسه الخاص: ننفخ فيه بالقصبة، نحرك الجمر بالسيخ، نحمي رؤوسنا من دخانه بغطاء الرأس. وكانت كل أداة له تعامل باحترام، حتى الملقط الصدئ كانت له مكانته.
حين يشتد الشتاء، نلتف حوله كما يلتف العمر حول الذكرى. يمد الجمر دفئا صامتا في الأصابع، وفي الأرواح والقلوب. وكلما طقطق الخشب وهو يحترق، أحسسنا أن الزمن يبوح و يتذكر...
حين دخل الغاز  والكهرباء، والمواقد الذكية... صار الطهي أسرع، والدخان أنظف. لكن الكانون ما زال فينا: في الذكرى وفي الرائحة.. وفي الحنين، وفي كل لهب صغير نشعله لنقول: كنا هناك، عند الجدة، قرب الكانون، نحمل دفء العالم كله في حفنة جمر.
الكانون، لم يكن نارا فقط. كان بيتا داخل البيت...كان ذاكرة...في حضرة جدة تجلس بيننا، تلبس رداء الطين، وتبتسم.