Monday 9 June 2025
كتاب الرأي

إدريس الأندلسي: الأغنية المغربية تحتاج إلى مؤلف وملحن ومطرب

إدريس الأندلسي: الأغنية المغربية تحتاج إلى مؤلف وملحن ومطرب إدريس الأندلسي
نسي مسؤولو التلفزيون المغربي، ومعهم وزارة الثقافة، أن فن الغناء ليس فقط أداءً صوتيًا معزولًا، ولا كلامًا منثورًا، ولا لحنًا سابحًا في خيال ومفتقدًا لرَواسي تطمئن لها الأفئدة والقلوب.
الأغنية المغربية، كغيرها، بناء جماعي ذو هوية، يحميها وعي ثقافي عميق كعمق تاريخ الوطن. كثر الصخب، وكثرت الإيقاعات التي تشبه آثارها على الأذن انفجار الألعاب النارية وتحولها إلى "لا شيء".
هل تتذكرون روائع "الشاطئ"، و"حبيب الجماهير"، و"القمر الأحمر"، و"راحلة"...؟ كثير يتذكرون الجمال في عهد الجمل اللحنية والشعرية، وكثير لا يتذكرون أغنية لا يزيد عمرها عن سنة. هل نسي أحدٌ أغاني عبد الصادق الشقارة أو المبدع رويشة أو الحاجة الحمداوية؟
الحضور يستمر بالتحكم في مفاتيح الدخول إلى قلب ثقافة المغاربة، وليس بتهييجهم بإيقاعات وكلمات تخاطب أجساد بعضهم، وتوجههم نحو قبول الرداءة في كافة تمظهراتها المسماة اعتباطًا "موسيقية".
ويظهر أن المسؤولين على القطاع الثقافي فضّلوا، منذ سنين، ولا زالوا يفضّلون التنازل عن سموّ الإبداع وتشجيع الهبوط إلى ثنايا "القاع".
قيل إن الفنان الكبير أحمد البيضاوي علّق، وهو آنذاك رئيس لجنة قبول إذاعة الأغاني بالإذاعة المغربية، بعد سماعه لأغنية "حليم المغرب" الراحل الحياني "ياك الجرح برا... وقلت لابأس القبل أنساه"، أن هذه هي الأغنية المغربية، وهكذا يجب أن يتعامل الملحن مع الإيقاعات المغربية، ومع ما تتيحه موسيقى بلادنا من جمل لحنية استثنائية. تعبير الموسيقار أحمد البيضاوي كان صادقًا.
وقد خلق هذا الماضي الجميل حوافز فنية أعطتنا عمالقة في مجال التلحين والتوزيع الموسيقي. كان من أوائل المبدعين في مجال الأغنية المغربية عبد الوهاب الدكالي، وعبد القادر الراشدي، وعبد الرحيم السقاط، ومحمد بن عبد السلام، والقديميري، وإبراهيم العلمي، وفويتح، وعبد الله عصامي، وعبد السلام خشان، والعربي الكواكبي، وكثيرون ممن سكنهم ويسكنهم إيقاع مغربي ممزوج بلغة موسيقية أصلها من رمال الصحراء، وسموها من جبال الأطلس، وعبيرها من نسائم كل هضاب وسهول الوطن.
اعتبر هؤلاء المبدعون أن مسؤوليتهم الفنية تحتم عليهم انخراطًا غير مشروط في الذود عن حمى الوطن سياسيًا واقتصاديًا وسياحيًا وثقافيًا. كانت الأغنية المغربية تُصنع بكثير من الحب والإخلاص، ولا زال بعض الملحنين يقاومون الرداءة في مجال فقير ثقافيًا وموسيقيًا يسيطر على "سوق التفقيـر الموسيقي".
حاولت القناة التلفزية الثانية خلق جوّ من التنافس في مجال الأداء سواء تعلق الأمر بالأغنية الكلاسيكية العربية أو المغربية، قبل أن تبحث عن الأضواء من خلال "الأغنية المرتبطة بالعيطة". نجح التنافس وفاز من فاز بلقب فارس هذا النوع من الأغنية.
ويبقى أن هناك غيابًا كبيرًا للتعامل مع الأغنية المغربية كمنظومة ثقافية تعبّر عن مجتمع وتاريخ وحضارة.
حاول أحد وزراء الثقافة قبل أربعة عقود تنظيم مسابقة في مجال الأغنية، وكانت مبادرته فرصة لإعادة الوهج للأغنية المغربية. ومن نتائج هذه المسابقة تألق رائعة عبد الوهاب الدكالي "كان يا ما كان". تتبّع المغاربة حفل التتويج، وكانوا متفقين على اختيار أغنية أيقظت فيهم حب الإبداع الموسيقي.
وجاءت بعدها أغنية "يا جار وادينا" التي أدّتها الراحلة رجاء بلمليح، وألف كلماتها الشاعر محمد حاي، ولحنها القديميري. وأحرز الراحل عموري مبارك المرتبة الثالثة بأغنية أمازيغية جميلة. وقامت وزارة الثقافة بتنظيم مسابقة ثانية، ثم توقفت المبادرة التي كانت تحتفل بالشاعر والملحن والمغني.
منذ تلك الأيام الجميلة، لم تُعطَ الأغنية المغربية، التي كانت تُسمّى "عصرية"، ما تستحقه من تقدير وتأطير وتأمين. كان من الممكن أن أجزم أن الأغنية المغربية الأصيلة قد غابت وأصبحت في عداد المفقودين، بعد أن سيطرت الإيقاعات "المسمّاة شعبية" على الجملة اللحنية والشعر الغنائي.
ولكن الأمل في الإبداع لا زال موجودًا. ورغم هذا التيار الجارف، صمدت الكفاءات الموسيقية ذات الحمولة الثقافية التي تسمو بالمستمع، ورحل المبدع عبدو الشريف الذي كان يتقن حمل سحر الأغنية، واستمر نعمان لحلو في التغني بالبلاد، واستمر البشير عبدو في أدائه كأجمل الأصوات، ولا زال الزبادي يساهم في الحفاظ على أصالة الأغنية العربية. وكثير هم من سبحوا ضد تيار جارف تكمن قوته في فقره الموسيقي والأدبي.
ولهذا أصبح من الواجب على التلفزيون العمومي الانتقال إلى تنظيم مسابقات تمزج بين عطاء شاعر، وإبداع ملحن، وأداء مغنٍّ.
إن سألتم عبد الوهاب الدكالي عن سر نجاح أغنية "كان ما كان"، فسيجيبكم بأن الأمر يتعلق بإلهام سحر لب الشاعر الباتولي في حضرة حكواتي في ساحة جامع الفنا. ووصلت كلمات الشاعر إلى قلب ملحن، ثم اخترقت الميدان، أوتار عود وكمان، لتصوغ جوهرة ناصعة لا زالت تتملّك قلوبًا وأفئدة.
وإن سألتم نعمان لحلو عن سر تلك الجملة الموسيقية التي غرست "شفشاون النوارة" في قلب المغاربة، لقال لكم إن الإلهام مرتبط بحب الوطن، وبالعمل المضني، وبالبحث المتواصل.
وإن سألتم الملحن مولاي أحمد العلوي، فسيبسط أمامكم ثقافة إيقاعية ولحنية لا زالت تسكنه رغم سيطرة بعض المنتجين على مصير تسويق الأغنية المغربية العصرية.
وإن سألتم كل من صنع التميز المغربي، لقال لكم إن الفن كان موهبة وثقافة ورغبة في حب الجمال، وكثير من التواضع من أجل خلق "ساعة سعيدة... ما تُباع بأموال... وضوّى المكان... والفرحة تهنّي البال... وبال حبيبي سحر وجمال".
لا يجب أن يُفهم من هذه السطور أن كاتبها يدعو إلى "سلفية غنائية" وتقديس لفعل السلف الصالح في مجال إبداع أغاني لا زالت تؤثث الحفلات والأعراس وتدخل البهجة في النفوس.
يتعلق الأمر بمساهمة المؤسسات المسؤولة على الثقافة، وكذلك الفنانين، في مشروع يُعيد الجمال والتجذّر في ذاكرة المغاربة.
أسمع بشغف لبعض الأغاني المغربية الجديدة، وجزء منها يطربني، لكن كثيرًا منها يطويه النسيان بسرعة قياسية. يعتبر البعض أن كلمات الأغاني اليوم مغربية، ومرغوب فيها من طرف "الشباب". وأظن أن العكس هو الصحيح.
جمال الكلمة يُدخلها قاموس التعبير في كثير من المجالات، ويقيها من التفاهة التي تترجمها، في بعض الأحيان، كلمات ساقطة ومغرقة في سوقية مبتذلة. وهناك فرق كبير بين الأغنية الشعبية، والأغنية التي تأخذ الإيقاعات الشعبية وتضع عليها كلامًا غير ذي قيمة فنية.
لا زال الملحون، والعيطة، والطرب الجبلي، وطرب الآلة يزخر بكلام وألحان غاية في الجمال والصنعة.
يقول بعض ممن يعتبرون الموسيقى تعبيرًا إنسانيًا متنوعًا عن الجمال، ويحلمون بجلسات، وحفلات موسيقية كتلك التي ينظمها المبدع بودشار في المغرب، أو تلك التي تجمع الآلاف حول روائع الموسيقى الكلاسيكية التي تحييها كوكبة من الموسيقيين تحت قيادة الهولندي "أندري ريو"، إن الفن الراقي يبقى، ويغرق غيره في غياهب النسيان.
لم ينسَ الآلاف الذين يحضرون حفلات بودشار "سولت عليك العود والناي"، أو "قطار الحياة"، أو "الله الله يا ذاك الإنسان"، أو "ما أنا إلا بشر"، أو "العيون عينية"، أو "الهمّامي"... واللائحة طويلة.
ولهذا وجب أن نحتفل بالفنانين: من ملحنين، وشعراء، وموزعين، وعازفين، ومغنين، لكي يظل الإبداع حاضرًا في حياتنا.