الخميس 16 مايو 2024
كتاب الرأي

عبد الحكيم الزاوي: مخاضات الراهن العربي

عبد الحكيم الزاوي: مخاضات الراهن العربي مولاي عبد الحكيم الزاوي
من يقرأ راهن الزمن العربي منذ انفجار ما عرف في وسائط الميديا الحديثة بالحراك الإجتماعي تستوقفه بعض معالم التحول. هناك من يقرأ الوضع من زاوية لعبة خلط الأوراق، وهناك من يُلح النظر إليها من زاوية انتعاش خطابات تجذير القبيلة والاثنية والطائفية...يتعذر في القراءتين معا إقامة تحليل تاريخي بحس نقدي، يبحث عن أدواء الوهن العربي من محيطه إلى خليجه. يرتفع القلق أكثر حينما يصبح الزمن العربي منسكبا ضمن ترسيمة التقاء صعب بين تراكمات ممنهجة مورست من طرف الدول الوطنية في استبعاد الهامش والمهمش من دائرة الانشغال السياسي لفترات طويلة، مع تعمق نُزوعات العولمة الافتراسية الساعية إلى رسم عوالم متخيلة عن الواقع الإنساني، برؤية تمتح مما يسميه عرَّابو الخطاب الما بعد كولونيالي بالسلطة الناعمة Soft power...الربط بين المعطيين يفضي إلى فهم وتفسير تواتر الحركات الاحتجاجية على امتداد جغرافية العالم العربي. باتت هذه الحركات تنقل مطالبها من مطالب اجتماعية نحو مطالب سياسية.
 
يسهم التحول في تشكيل شرعية جديدة مشيدة على التصادم الحادث بين التقليد والحداثة. راهن المنطقة ينذر بلحظة مخاض. مخاض جسد على وشك الوضع كما يقول المفكر الفرنسي جييل كبيل Gilles Kipel.

الزمن العربي يبدو راهنا مُثخنا بالإشارات والعلامات السوسيولوجية حول مخاضات القطيعة والولادة، حول بداية زمن المراجعات الفكرية والسياسية والدينية، حول هدم عالم ما قبل 2011 وإعادة بناء عالم ما بعد 2011. تحول راديكالي يجعل نقطة العودة صعبة، وأفق الاحتماء بالماضي متعذر. ففي المغرب، ينصرف النقاش حول مغرب المَقدم والشيخ والقائد، مغرب الدولة الاستبدادية التي تستمد شرعيتها من الإرث المخزني التي بدأت في الاختفاء أو على الأقل الانسحاب، تحت تأثير وسائط الميديا وانفجار المعلومات والحاضر المعولم، وهو ما يسمح للمشتغلين في حقل العلوم الانسانية اليوم بإعادة صياغة سردية سياسية واجتماعية جديدة حول مورفولوجية العالم العربي، استنادا إلى تحليل مِجهري متعدد الجوانب، يُنوع باستمرار من مقياس الملاحظة، بين الملاحظة من فوق المفككة لتاريخ الاخفاقات التنموية وفشل السياسات العمومية في تذليل معيقات التأخر الاقتصادي والاصلاح السياسي والثقافي، والملاحظة من أسفل الباحثة عن التقاط إكراهات وضغط اليومي الاجتماعي بسبب سوء توزيع الثروة وغياب العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص في ظل القبضة الحديدية لمالكي وسائل الانتاج والاكراه الجدد.

أتصور أن الانتصار لهذه الرؤية التركيبية في تناول موضوع على درجة عالية من التعقيد والتركيب، في فضاء جغرافي متموج ومنفلت من كل مقاسات التحليل، يقتضي ارتداء عباءة المؤرخ السياسي المتجرد من الخلفيات المعلنة والمضمرة، المؤرخ الباحث عن مسكن الشيطان المستوطن في التفاصيل كما يقول المثل الفرنسي، الذي يقوم بعملية فرز وتصنيف التشابكات التي تسم البنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية لعالم يقع في مفترق طرق حاسم، أملا في إقامة مقايسة مجالية بين أقطار هذه البلدان لفهم الجذور المنتجة  لخطاب الفعل الاحتجاجي، وإشكالية مأزق الإسلام السياسي، وانسحاب الإنتلجنسيا من التأثير في الشارع، مقابل صعود صوت الشباب، وتصدع مؤسسات التنشئة الاجتماعية التقليدية في تشكيل الوجدان وصناعة التوافق التاريخي، عن تعذر صياغة ما يسميه موريس هالفاكس ب "الضابط الإجتماعي"، الذي هو بالنهاية عملية متواصلة بتواصل تطور المجتمع.

تروم هذه الورقة البحثية تأطير النقاش بخصوص أزمة التأخر التاريخي، وتواصل أزمنة التسلط والاستبداد والتواكل التي تنخر راهن مجتمعات الانفجارات الكبرى، عن صعود خطابات الاثنيات والقوميات والطائفيات في لحظة تاريخية فارقة، بقدر ما تنجر نحو الوراء، بقدر ما تتطلع إلى الأمام، لحظة هادمة لما قبلها، لحظة ولادة جديدة، بتعبير آخر يشهد راهن العالم العربي على انبثاق معارك جديدة تتطلب نفسا طويلا من أجل تشكيل الذات العربية المنكسرة، معركة التحديث الثقافي وترسيخ قيم المواطنة والحرية والدولة المدنية، معركة التصالح مع الذات، وإعادة بنائها مجددا على سكة العقل والتاريخ والوعي والنقد، معركة إعادة الفضاء العربي إلى قطار التاريخ ومجاراة تحولاته الحادثة.

يفضي هذا الاختيار إلى تحويل رهان القوة إلى قوة الرهان، إلى جعل الارتطام بين القديم والحديث مكشوفا من أجل استثماره في معركة ما بعد النهاية، لأن التخلص من الاستبداد وإرث الدولة السلطانية لا يقتضي منازلة واحدة، بل نفس طويل ورؤية مستدامة وتضحيات دؤوبة، وهو ما يجعل سؤال الاجتهاد والأنوار  داخل رحى العالم العربي مطلبا راهنا لمواجهة العودة المتكررة للقبيلة والعشيرة إلى الفضاء التداولي وقضايا الشأن العام، على الأقل في اللحظة التي تشهد انحسارا قويا للدولة الوطنية وفشلها في بناء مشروع مجتمعي يرعى الاختلاف، مشروع يؤسس لوعي وطني صاهر للهويات المتقاتلة، مشروع يذيب فزَّاعة دولة الخلافة التي تتوطن في ذهنيات بعض من قارئي التراث، دولة إحياء المجد القديم ضدا على حركية الواقع التاريخي ومكتسبات الحضارة الانسانية.
 
الدكتور عبد الحكيم الزاوي/ باحث وناقد