منذ الهزة الأولى عَرَفْتُه. على الفور، أيقظتُ زوجتي : "هذا را الزلزال !". وعلى الفور، غادرنا شَقَّتَنا. كنتُ يَقِظًا لاأزال، أقرأ وأُدَوِّنُ بعض الملاحظات مستلقيًا على طرف السرير، حين حدَثَتْ هذه النَّوْبَة الزلزالية.
لم تكن هذه الهَزَّة هي الأولى التي أشعُرُ بها. في 2001، أحسستُ بهزة الزلزال، لكن هذه الهزة كانت مرعبة. لقد حدثت على بعد حوالي أربعمائة كلم في جنوب مراكش. والمسافة الفاصلة بين مراكش والرباط تبلغ 325 كلم، فضلًا عن مركز الزلزال في أحواز مراكش على بعد أكثر من سبعين كلم. أكثر من ثلاث ساعات بالسيارة، اجتازتها الهزة في أقل من دقيقة. في أربعين ثانية تحديدًا، كان الدمار قد حصل، والهَلَع استوطن النفوس.
في الشارع، كان الجيران قد تركوا بيوتهم في ليلةٍ دائخة. مكَثْنَا في قلب سيارتنا نتأمل عمارتَنَا التي نقيم فيها في الطابق الثالث، ونتأمل العَالَم والكون والحياة والموت.. وكل شيء.
رأيتُ الزلزال هذه المرة، ولم أحس به فحسب.
كان واضحًا أمامي في حركة السرير، وفي اهتزاز الكتب فوق منضدتي، وفي ضوء الغرفة.
هو ذا الزلزال، عيْنَايَ في عَيْنَيْه.
ثم هاهو يتَبدَّى في الفزع العام في شوارع وساحات الرباط، في دوخة الجيران، وفي قوافل السيارات التي كانت تسير في الاتجاهات كلِّها. ثم تدريجيًّا، استوعبنا اللحظة، وبدأنا ننخرط في الأجواء الطارئة، ونَتَتَبَّع الأَخبار عبر راديو السيارة، ومن خلال المُوبَايْل، وكانت الأخبار لاتزال متضاربةً وناقصةً. مع ذلك، نَشَرْتُ تدوينة أولى على الفَيْسْبُوك. بعدها تحركنا بسيارتنا لنكتشف أجواء الرباط ليلًا في غمرة الاحساس بهذا الارتجاج الكبير. كانت الساحات قد امتلأت بالساكنة التي نَأَتْ قلقَةً عن احتمالات الخطر داخل العمارات والشقق والبيوت.
التَّمثُّلات والمشاعر كانت كثيرة ومتضاربة. واستحضرنا فورًا عزلة وباء كورونا – كوفيد 19 التي استغرقت ستة أشهر بل عامًا قبل أن تنفرج تدريجيًّا. استحضرنا أيضًا بعضًا من تاريخ زلازلنا المغربية والمغاربية. والحقيقة أننا، فُرادَى وجماعاتٍ، اكتشفنا أننا لا نملك ثقافة الزلازل، فلا نعرف الكثير عن تشكلات هذه الظاهرة الطبيعية الرهيبة، كما لا نعرف كاليابانيين أشكال التعامل مع الزلزال عندما يحدث قرب أسِرَّتهم، وتحت أقدامهم. ولحظة تِلْوَ لحظة، تذكرنا أَن علينا أن نعود إلى البيت لنوقف الكهرباء والغاز، ونأخذ بعض الأغطية، ونغادر.
تنقصنا الخبرة وتمارين الوقاية من أخطار الزلزال، لكن لنا تاريخًا من الزلازل. كرونولوجيا زلزالية كاملة تتوفر في مُدَوَّناتِ المؤرخين، ويمكن الرجوع إِليها للإطلاع في الكتاب – الأطروحة الذي كانت نشَرَتْه المؤرخة دة. ثريا المرابط أزروال "الزلازل الكبرى بالمنطقة المغاربية ومخلفاتها على الإنسان ومحيطه" (2005). كتاب هام جدًّا من حيث القيمة العلمية، والرصد التاريخي، ومساءلة الخطر الزلزالي وتقييماته سواء قبل الظاهرة الزلزالية أو بعد حدوث الكارثة.
للأسف مَرَّ هذا الكتاب العلمي عند صدوره في صَمْتٍ مطبق، رغم أنه شَكَّلَ حدثًا جامعيًّا كأطروحة أكاديمية، جديدة تمامًا من حيث موضوعُها في كتابة تاريخ المغرب والتاريخ المغاربي، ومن حيث نوعية المعالجة. لقد أنجزت الباحثة في الحقيقة أطروحتَيْن، الأولى حول تاريخ الزلازل بالمغرب من سنة 860 إلى سنة 1960 لنيل شهادة الماجستير، والأخرى عن الزلازل الكبرى في المنطقة المغاربية لنيل دكتوراه في التاريخ. وبعد ذلك، قامت بتركيب العملين في هذا الكتاب. والأهم أنها اشتغلت على ظاهرة علمية دقيقة من وجهة نظر المؤرخة، لكنها أنجزت عملها داخل المركز الوطني للبحث العلمي والتقني. في إِطار مشروع باميرار (PAMERAR) الذي يهدف إلى التخفيف من المخاطر الزلزالية في الأقطار العربية.
الناس لا تقرأ أو قلما تقرأ الأَساس.
وظني أن زلزال حوز مراكش الحالي سيعيد المغاربة إلى تاريخ زلازلهم ، وإِلى المعرفة العلمية الخاصة بالظاهرة الزلزالية، بدلًا من التفكير الخرافي والتخيُّل الديني الشَّعْبي الذي ينظر إِلى الزلزال كعقابٍ إِلهي : "أَفَأَمِنَ أهل القرى أن يأتِيَهُم بَأْسُنا بياتًا وهم نائمون" (الأعراف)، وهو خطاب يفشل غالبًا حتى في استعمال وتفسير وتأويل مقاصد وروح الآيات الواردة في أربعين سورة حول الزلزال في القرآن الكريم ، بشكل مباشر أو غير مباشر.
واستطرادًا، يمكننا استعادة أصول المعرفة العربية بالظاهرة الزلزالية بالعودة إلى كتابات ومواقف جابر بن حيان، وابْنِ سينا، وإلى أبي الحسن المسعودي في كتابه "'التنبيه والإشراف" وجلال الدين السيوطي في كتابه "الصَّلْصَلَة عن وصف الزَّلْزَلَة"، والقزويني وغيرهم، وكذا إلى مصنَّفَات عَدَدٍ من المؤرخين العرب. حيث تبدو في الغالب امتدادات جوانب من نظرة أرسطو التأسيسية ، المحدودة والابتدائية، إِلى الزلزال، وكذا نظرة سينيك، في بعض تجليات التفكير العربي القديم الذي لم يَسْلَم مع ذلك من النظرات الخرافية التي قد تثير اليومَ غَيْرَ قليلٍ من السخرية والضحك. وللأسف، فإن جانبا من التفسيرات البدائية لا تزال تجد لها بعض التجلي في تفكير بعض"الدعاة"و"المُبَشِّرين"
(المُنْذِرين في الواقع) الدينيين من الذين يفتقرون إلى الحد الأدنى من العقلانية والروح العلمية وأبجدية العصر الحديث.
(المُنْذِرين في الواقع) الدينيين من الذين يفتقرون إلى الحد الأدنى من العقلانية والروح العلمية وأبجدية العصر الحديث.
إن تجربة الصدمة التي عشناها في إثْر الزلزال الحالي، والذي انبثق من عمق جبال الأطلس، لم تكن سهلة. ولعلها، في ظل تطور الدولة والمجتمع في المغرب اليوم، ومع انتشار الصورة ومظاهر مجتمع الفرجة ووسائل التواصل الاجتماعي، واتساع القاعدة التعليمية في البلاد، وأثر الظاهرة الأدبية والثقافية الجديدة، تتيح لنا استثمار خطابات التطور العلمي والمعرفي، والسعي إلى فهم الأسباب العلمية لحدوث الظاهرة الزلزالية، وعلائقها بمورفولوجيا كوكب الأرض، بالخصوص إدراك وجود المغرب والمنطقة المغاربية وشبه الجزيرة الإيبيرية في منطقة هشة حيث يظل اصطدام القَارَّتَيْن عند جبل طارق قائمًا باستمرار، وكذا التقاء الصفيحَتيْن الإِفريقية والأوراسية، وتفاعلات شبكة الصُّدُوع في الحوض المتوسطي، والاكتشاف الجديد (الذي ليس جديدًا بالمناسبة) لتمركز النشاط الزلزالي في مجال سلسلة جبال الأطلس، بين الأطلس الكبير والأطلس المتوسط حيث يستمر النشاط الزلزالي في الهضبة الوسطى المغربية (أنظروا للاستئناس والتأكد إلى الصفحة 33 من كتاب الدكتورة ثريا المرابط أزروال).
وإلى الآن، مازال الزلزال الجديد في أحاديثنا اليومية، في البيت والعمل، وفي التلفونات والقنوات التلفزيونية ومختلف التوسطات التواصلية والإعلامية. وقد رأيت شخصيا بعض آثار الزلزال في مدينة مراكش والمنطقة. وتدريجيًّا، أصبحت المشاعر الشخصية جزءًا من المشاعر الجماعية لمغاربة عبَّروا عن قيم تضامن رائعة، وعن وحدة متماسكة، والتفاف جماعي، وإحساس بالمسؤولية بل وعن وعي عالٍ بأخلاق المسؤولية.
إِنها كارثة كبيرة لم تتوقف ذيولها وتبعاتها وخسائرها البشرية والمادية حتى الآن، لكن التضامن العربي والعالمي مع المغرب في هذه الكارثة خَفَّفَ من إِحساسنا المرعب. ورغم فداحة الخسائر وهَوْلِ الأنقاض والخرائب والتداعيات النفسية والاجتماعية ومَشَاهِد الموت المتراكم، أحسستُ أن لدى المغاربة وعيًا بأنهم يعيشون مع ذلك "وجهًا من أَوْجُه التاريخ" ،بتعبير وَالْتَر بنْيَامين وهو يتحدث مرةً عن معنى الكارثة. كما تذكرتُ كيف برَعَ الشاعر والروائي المغربي الكبير (بالفرنسية) محمد خير الدين في روايته "أݣادير" في أن يرتقيَ بفجيعةِ زلزال أݣادير سنة 1960 إلى مستوى نصّ شاعري ملحمي أسطوري، كتَبَهُ بنبرة قلقة غاضبة خلاقة تريد إِعادة التخطيط لبناء عالم جديد وإِعادة هندسة الروح الجريحة الكسيرة. ولعل المغاربة يعيشون من جديد مع هذا الحدث الكبير المروع ما سَمَّيتُه بـ "شِعْرية الأَنْقَاض" في كتابٍ لي بالعنوان ذاتِه، أي كيف نَعْتَصِرُ هذه الكارثة المهولة، بكل تفاصيلها الشعرية والسردية، ونحتفظ للذاكرة وللتاريخ بعمق هذه التجربة المغربية المُرّة وبمعناها الإِنساني.