مازال الطّبيب في هذه البلاد يراك صنوا له، قد فرّقت بينكما الصّنعة والتّخصّص... لا يحدّثك عن مرضك فيُبئسُك ويُيْئِسُك ويُخيفك حتّى يُضعف علاقتك بربّك ويجعلك مطيعا مدمنا على زيارته كما يُفعل بأغلب أهلنا في بلادنا، يمتصّ مالك ويُردي نفسيّتك.
لا يراك مشروع تحاليل طبيّة تنشّط المخابر المنخرطة في الشّركة الخفيّة... لا يراك مجرّد وصفة طبّيّة يجمّع فيها الأدويّة متشـابهة التّركيبة والتّأثيــــر ممّــــــا ارتفع ثمنُهـــا، يُثري بهـــــــــــا صيدليّة استمرأت وصفـاتِه قد تربّصت بك وبغيرك.
طال بي الانتظار (خمس دقائق تقريبا)، فخرج الطّبيب إلى قاعة الانتظار - كعادة الأطبّاء في هذه البلاد – وناداني.. امتثلت واقفا ملبّيا.
هشّ وبشّ وصافح مسلّما وأدخلني مكتبه.
أجلسني. سأل عن الجديـد، وقد علم من خلال آلــة المراقبة التي كانت صاحبتني أربعا وعشرين ساعة، كلّ جديد... يريد سماعي، ليؤكّد بإضافاتي ما كان لديه من قناعاتٍ، قبل سماعي.
ينتشي الطّبيب ويَسعَد بوجود مريض قد استعلم عن مرضه وبحث عن أسبابه وفقِه تطوّراتِه.
يسهّل استعلام المريض للطّبيب مُهمّته؛ إذ يزيد ذلك من الجرأة على الحديث في شأنه
بصراحة لا تخشى المفاجأة.
كان الأمر فيما مضى متقطّعا، فبات اليوم مسترسلا. دقّات القلب متسارعة جدّا لا تهدأ. الأدوية وحدُها غيرُ كافية، ولا بدّ لنا من معالجات أخرى.
كان هذا رأيه... سوف تخضع لبعض الفحوصات لنحدّد بالضّبط المعالجات المثمّنة لدور الأدوية.
قلت: أنتظر منك رسالة مواعيد إذن.
أجاب: هو ذاك وسيكون قريبا.
مازحته: أقول دائما لأصحابي وأصدقائي، إنّه لم يبق لي سوى ستّون سنة.
ابتسم معلّقا: مدّة طويلة، قد لا تُعدَم بعضها.
ودّعني كعادتهم: ليكن يومُك طيّبا!.. رددتُ كما أخذت عنهم: ويومك كذلك!.. عباراتُ مجاملةٍ طيّبةٌ لا تغادر أيّ تعامل في بلاد الإقامة الدّنمارك.
أتابع عبر اليوتوب مسلسلا تركيّا بعنوان (عودة الرّوح)، تسمّيه زوجتي (حصّة البكاء) لكثرة ما فيه من البكاء.. تتمنّى فيه البطلة جمع شملِها بأولادها، وقد حُرِمَتْهم بتهمة قتل زوجها - وهي من التّهمة براء - ولزمتْ السّجن بسب ذلك عشرين سنة كاملة.. أسهر مع هذا المسلسل وأبكي مع الممثّلة ومع كلّ مَن يشاركها البكاء، بكاء قد يفوق بكاءها. فبكاؤها تمثيل قد يزيد من شهرتها وإسعادها، وبكائي حقيقيّ لم يجد إلى حدّ الآن مَن ينتبهُ إليه، فقد عمَّتْ عليه ابتساماتي المسترسلة الصّابرة، وتستّرت عليه مصائب الآخرين الأعظم، ومردّه أنّي قد حرمتُ مثلها أهلي وبلادي أكثر من عشرين سنة، حتّى أنّني لم أحضر مرض
أمّي، ولم أشارك في الصّلاة عليها، والمشي في جنازتها، وإقبارها.
وقد خشيت، والطّبيب يتحدّث عن التّطوّرات في بدني، ألّا يتطوّر الوضع في بلدي، فلا يؤبه إلى الضّعفاء منّا، إلّا وقد حُمِلوا على الأعناق عبر سفارة بلدٍ تكفّل باستقبالنا على الألواح، غير مهتمّ زمن وجودنا في الدّنيا بما تعاني فينا الأرواحُ.
أقول: إن حصل ذلك - والأعمار بيد الله تعالى - فلن يكون لديّ إلّا رجاءٌ واحدٌ: ألّا يؤبّنني المؤبّنون، خَشيةَ وقوعِهم في كذب قد يكون للإيمان مُنقِصًا أو ربّما ناقِضًا. والحمد لله ربّ العالمين...