Thursday 19 June 2025
كتاب الرأي

عبدالحميد العدّاسي: عيد عام 2021

عبدالحميد العدّاسي: عيد عام 2021 عبدالحميد العدّاسي
يكاد المرء في العيد - وقد قُطع عن الأهل أو توقّف عند المصائب والنّكبات التي نزلت بساحته هنا وهناك - يستسلم إلى الضّعفِ فيتلقّفه الاكتئاب وتلازمه الكآبة، غير أنّه - وقد أسلم وآمن - سرعان ما ينتبه إلى حقيقةِ أنّ المسلمَ لا بدّ أن يكون مُوقنا بأنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه وأنّ الصّبر على المصائب خيرٌ كلّه و[مَن يتصبَّر يُصَبِّرهُ الله] كما جاء في البخاريّ ومسلم[1]، وأنّ مِن وسائل التّخفيف من آثار المصيبة والصّبر عليها، النّظرَ في مصائب الآخرين الذين كانوا أشـــدَّ منه مصيـبة وابتلاءً، والاعتبار من سلوكهم وردود أفعالهم.
ولقد نظرتُ، فإذا النّاس في تونس الحبيبة وغيرِها من البلاد يشيّعون كلّ يوم عزيزا أو أعزّة عليهم بسبب جائحة كورونا التي لم تمكّن حتّى من اجتماع الأقارب والأحباب للتّعزية قبل الدّفن، وقد يسّر الله تعالى لي الوصول من الدّنمارك وتقبيل الوالد والسّير في جنازته والصّلاة عليه والمشاركة في دفنه، فلله الحمد والشّكر. ثمّ انتحيتُ مصرَ، فإذا النّاس فيها يرزحون تحت وطأة حاكم جاهل، نسِيَ الله ﷻ فأنساه الله نفسه. يقتّلهم في رمضانَ فضيلٍ سابق دون اكتراث لدُنيا تواطأ أهلُها على مقاطعة المروءة والتّنكّر للإنسانيّة. ثمّ أمّمت الأرض المباركة، فإذا الكيان الصّهيونيّ - وقد استقوى بالعُرب يستقبلونه في ديارهم ويرفعون أعلامه وينكّسون راياتِهم ويكرمونه بمؤانسة نسائهم - ينتهك حرمة المسجد الأقصى فيقتل داخله ويصيب برصاصه المئات من الأحباب في الرّأس وفي العين، ويغزو حيّ الشّيخ جرّاح يحاول إجبار ساكنيه على مغادرته ويعربد كما شاء في البلدة القديمة، فلا يجد في العالم عاقلا يقاومه أو على الأقلّ يلومه، إلّا ما كان مِن تنديد وزير الخارجيّة الأيرلنديّ أو كان مِن خُطبِ طيّب أردوغان رئيس تركيا، أو مرابطة قناة الجزيرة الفضائيّة التي ظلّت تمثّل الجرأة الضّائعة ووسيلة النّاس الصّادقة في كشف الحقيقة المؤلمة.
سواد قاتم وظلمات بعضها فوق بعض تُنسي الشّأن في اليمن وفي العراق وفي سوريا وفي ميانمار وفي غيرها من بلاد الإسلام حاضنةِ المصائب ومنزلِ العاهات، ناهيك عن مصيبتنا الخاصّة في أمواتنا، رحمهم الله تعالى.
غيـــر أنّ العيد لم يشأ لنـــــــا - بإذن ربّه - مـــــــا يحزنُنا ويُغِمُّنــــا، فأبدل الحزنَ فرحًا واليأس والقنوط أملا واستبشارا، فأهدانا قبل حلوله ما جعلَنا نحتفل به قبل حلوله ونعيد الاحتفال به بعد رحيله. ذكّرنا بقول عبدالله بن الإمام أحمد رحمهما الله تعالى، الذي جاء فيه: وجدت بخطّ أبي، ثمّ روى بسنده إلى أبي أمامة قال: قال رسول الله ﷺ: [لا تزال طائفة من أمّتي على الدّين ظاهرين، لعدوّهم قاهرين، لا يضرّهم من خالفهم إلّا ما أصابهم من لأواء، حتّى يأتيهم أمر الله. وهم كذلك]، قالوا: يا رسول الله وأين هم؟ قال: [ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس][2].
لم يذكِّرْنا العيدُ بالحديث نصّا بل ذكّرنا به فعلا. فقد تكلّم رجالمن أكناف بيت المقدس، يطالبون العدوّ الصّهيونيّ بالكفّ عن العربدة في القدس وفي المسجد الأقصى المبارك وبعدم إيذاء أهله وتهجير ساكنيه وإحلال المستوطنين الأجلاف فيه، ثمّ أمهلوه - وقد ركن إلى صلفه وجبروته - مهلة حدّدوها بالسّاعة السّادسة مساء بتوقيت مكّة المكرّمة من يوم الثّامن والعشرين من رمضان 1442 الموافق 10 ماي 2021، حتّى إذا جاءت السّاعة المحدَّدة بحزم الصّادقين ولم تقترن بالانصياع خرجت الصّواريخ من الأكناف، من غزّة العِزّة، على السّاعة السّادسة ودقيقة واحدة، تُرِي النّاس أنّ في المسلمين رِجالا إذا وعدوا وَفَوا.
ارتجّت قلوب العدوّ وفغرت أفـواه أحباب العدوّ من العُرب المطبّعين السّاقطين ومن المنافقين الخانسين! تساءلوا، كيف يفعلون ذلك وهم ضعاف لا طاقة لهم بالصّهيونيّة وجنودها المنتشرين في فلسطين المحتلّة وخارجها. سمعوا الأصوات المرتفعة في الأكناف تردّد مؤمنة واثقة: {كَم مِّن فِئَةٖ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٗ كَثِيرَةَۢ بِإِذْنِ اِ۬للَّهِۖ وَاللَّهُ مَعَ اَ۬لصَّٰبِرِينَۖ} (البقرة: 247)، وسمعوها قبل ذلك مذكِّـــــــــرة مقـــــــــرِّرة: {إِنَّ هُدَى اَ۬للَّهِ هُوَ اَ۬لْهُدَىٰۖ وَلَئِنِ اِ۪تَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُم بَعْدَ اَ۬لذِے جَآءَكَ مِنَ اَ۬لْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اَ۬للَّهِ مِنْ وَّلِيّٖ وَلَا نَصِيرٍۖ}. (البقرة: 119).
ساند صواريخَ الأكناف استبسالُ الذين هم بالبيت، فقد تحدّثت الجزيرة عن جيل جديد من الشّباب المقدسيّ والفلسطينيّ عموما، ووصفوهم بأنّهم لم يعودوا يؤمنون بالاستكانة والخنوع لغير الله ﷻ. كانوا رجالا لمّا وقفوا بباب العامود يُجبرون المستوطنين المدعومين بمقاتلي القرى المحصّنة والجُدر، الرّعاديد، على تغيير مسار مسيرتهم الاستعراضيّة، قبل أن يفرّوا تحت مفعول الصّواريخ - التي قَطَعت بمروءة استثنائيّة مع "التّسويف" العربيّ المُقعِد المخزي القاتل - كما تُبادِر الفئران المطارَدة المذعورة إلى جحورها. وكان من شباب فلسطين رجال يلبّون، بفروسيّة نادرة، نداءات حيّ الشّيخ جرّاح ينجدون أهله ويقفون إلى جانبهم بصدور عارية أمام جحافل الصّهيونيّة المدعـومة بانصـراف العـالم "المتحضّر"عن جرائمهم.
ثمّ كانت ردّة الفعل المنتظرة من الصّهاينة، أحفـاد قتلة الأنبياء، على أتباع الأنبياء عنيفة وحشيّة جبانة، استعانوا فيها بالوسائل التي صنعوها نهاية الحرب العالميّة الثّانية والتي كان منها "المجمتع الدّولي" و"الشّرعيّة الدّوليّة" المحروسين بالفيتو الظّالم أهلُه الجُهلاءُ.
غاراتٌ عمياءُ لاإنسانيّة تستهدف العُزّل في الأكناف فترفع منهم الشّهداء الأبرار تعلّم بهم الطّريق وتهوّن بهم علينا المصائب. غارات مجرمة جبانة، سوف تستمرّ حتّى يأتي زمن - وهو آتٍ بإذن الله - نعدّل فيه رمينا؛ إذ القوّة، كما أخبر حبيبنا ﷺ، الرّمي: [ألا إنّ القوّة الرّمي، ألا إنّ القوّة الرّمي، ألا إنّ القوّة الرّمي][3]. رميٌ لا بدّ أن يعكس بوضوح تامّ معنى الإعداد والاستعداد، يكون - ببلوغ الأهداف الوازنة بدقّة - شديدَ الإيلام، ويكون رادعا للصّهاينة ومسنديهم وللمطبّعين معهم، وميسّرا لأهل القدس وفلسطين قاطبة العيش في كنف الإسلام بسلام.
استمــــرّ القصف الجبـــــــان المدمّـــــــر حتّى فجــــــــر الجمعة التّـــــــــاسع مــــــن شوّال 1442، الموافق للواحد والعشرين من ماي 2021، فخرج الغزّاويّون السّاعة الثّانية ودقيقة، اقتداء بدقّة صواريخ الرِّجال، من تحت الأنقاض في مشهد بديع، يكبّرون تكبيرات العيد، بتلك الطّريقة المعبّئة المذكّرة بالفتح الأكبر في حضرة رسول الأمّة ﷺ. ثمّ تفجّرت البلاد المحتلّة والمخيّمات الفلسطينيّة هنا وهناك، فسال البشر الفرِحُون المستبشرون بالنّصر فيها أنهارا. وخنس الآخرون وأغلى أمانيهم التّمتّع بنومة حُرِمُوها أحد عشر يوما بسبب قائدِهم العنصريِّ أعمى البصيرة كارهِ الإسلام والمسلمين، الذي صرّح أنّه لن يوقف الحرب إلّا بتوفير الهدوء الدّائم لهم. سقط قائدهم وخاب وكذب وفقد احترامَ قومِه وشعبِه، فإنّهم ما ناموا إلّا بعدما استمعوا للّذي يثقون فيه وبه، فقد صرّح أبو عبيدة الملثّم النّاطق الرّسمي باسم كتائب القسّام ونيابة عن إخوانه في الفصائل المجاهدة، أنّهم سيوقفون الصّواريخ استجابة لتدخّلات الأشقّاء، وذلك بعد توقّف العدوّ الصّهيونيّ عن غدره وجرائمه، مذكّرا إيّاهم بنصّ القانون الميدانيّ الجديد الذي سنّته المقاومة الصّادقة الموحِّدة الموحَّدة في التّعامل بالسّيف، والذي يسهل حفظه بعد أن وُضّح واختُصر نصّه: (إن عدتّم عدنا).[4]كان عيدُنا كذلك هذه السّنة، عشناه وقد التحمت أرواحُنا بدمائنا وداخل أشلائنا. عشناه بشهدائنا الذين فاق عددهم المائتين وأربعين شهيدا، يتقدّمهم تسع وثلاثون سيّدة وستّة وستّون طفلا وسبعة وعشرون شيخا مسنّا، وقائد لواء غزّة أبو عماد بَاسِم عيسى القسّاميّ وخمسة قادة من سلاح الهندسة في كتائب القسّام وسبعة وخمسون قسّاميّا وواحد وعِشرون من سرايا القدس وواحد من ألوية النّاصر صلاح الدّين وثلّة أخرى من أهلنا الذين هم دون السّتّين... عشنا عيدنا تحت القصف ولكن تحت الشّمس لا نختبئ كالفئران ولا نخنع لصفّارات الإنذار. عشناه سعداء بشهدائنا الأطفال والنّساء والشّيوخ وبغيرهم من الأبطال، وسعداء جدّا بذبح "التّسويف" العربيّ العار ودرئه بعيدا عن منازلَ نزَلها أبطالُنا. وعاشه الصّهاينة في جحور غشّتها الرّطوبة وسامها الجبن واللؤم وغياب الرّجولة، رغم ترسانتهم التي لا يزال الغرب يتقلّلُها ولا يراها كافية لصدّ الصّواريخ التي خلّد المرحوم،
عرفات، صفتها "العبثيّة".
وأمّا أحباب الصّهاينة السّاقطون من العُرب المنافقين المنبتّين فعاشوه يخمّنون في مآلات الانحسار والانكسار، وهل هناك - إذا ما استيقظ الإسلام - فرصة للفرار! وهل من النّاس مَن يقبلهم، إذا كانوا واسترسلوا من السّقط الفُرّار؟
عبدالحميد العدّاسي
 
[1] البخاري: صحيح البخاري- حديث رقم: 1469 – ج 2- ص 122
[2] ابن حنبل: مسند أحمد - ج 36 - ص 657.
[3] أبو داود: سنن أبي داود - حديث رقم: 2514 – ج4 - ص 169.
[4] الإسراء: 8