الجمعة 26 إبريل 2024
سياسة

بعد سقوط صنم "العثمانية الجديدة": لماذا ارتمى أردوغان في حضن مصر ودول الخليج؟

بعد سقوط صنم "العثمانية الجديدة": لماذا ارتمى أردوغان في حضن مصر ودول الخليج؟ أردوغان والشيخ محمد بن زايد،ولي عهد أبوظبي
 لأن زمن ما بعد كورونا ليس كزمن ما قبلها فإن الأصنام تتهاوى تباعا وبسرعة ملفتة للنظر. وها هو صنم آخر يسقط بشكل أسرع من المتوقع. إنه زعيم "العثمانية الجديدة" أردوغان صاحب حلم "رؤية تركيا 2023" التي تمنى، وألقى الشيطان في أمنيته، أن يصبح في هذه السنة اقتصاد تركيا ضمن أقوى عشر اقتصادات في العالم. واختيار هذا التاريخ لم يكن مصادفة بل كان مدروسا يريد به "الزعيم"، كما يتصوره بعض السذج ودراويش السياسة، دخول التاريخ كما دخله أتاتورك المؤسس لتركيا الحديثة، وخاصة أن 2023 تتزامن مع الذكرى المائوية لتركيا الحديثة.
 
لم تعد تفصلنا إلا أقل من سنة على حلول هذا التاريخ، وتركيا الأردوغانية غارقة في مشاكل التضخم المالي حيث الليرة التركية في مستويات متدنية غير مسبوقة، والسياحة في أسوأ سنواتها بعد تداعيات كورونا، وغارقة في الكساد الاقتصادي وخاصة بعد الارتفاع الجنوني لأسعار الطاقة نتيجة الحرب الروسية الأوكرانية، وغارقة في الأزمات السياسية بعد فشل استراتيجية "تصفير المشاكل" حيث أنهكت أطماعُ أردوغان الدولةَ التركيةَ في أوهام التوسع الذي استنزف الكثير من إمكانياتها في غير طائل، وأحلامِ بسط النفوذ والريادة الإقليمية والرغبة في دخول نادي الكبار، وفي عداءات مجانية وتنافس فارغ مع دول عربية ذات ريادة في المنطقة وتمتلك لهذه الريادة كل وسائلها.
 
تستفيق اليوم تركيا الأردوغانية على أن قوتها كانت توهما فقط لأنها غير مبنية على أساس صلب، وأن الطائر بدون أجنحة مصيره السقوط مهما طال الزمن، والمزايدات بدون امتلاك عناصر قوة لا يزيد المزايِدَ إلا ضعفا وخضوعا.
 
لم يستوعب أردوغان أن مصلحة تركيا مع العرب إن تخلى عن أحلامه غير الواقعية. وتناسى أردوغان أن الاقتصار على اقتصاد خدماتي غير كاف إن لم تتوفر له أسواق توزيع خارجية وجهات تمويل دائمة، ولذلك لم يجد ملجأ بعد الأزمة المالية والاقتصادية غير الدول العربية مثل الإمارات التي استقبل في نونبر الماضي ولي عهدها محمد بن زايد آل نهيان الذي تعهد بمساعدة تركيا باستثمارات ضخمة، وهو ما تطلب منه زيارة الإمارات في فبراير الماضي انتهت بتوقيع 13 اتفاقية وبيانا بشأن شراكة اقتصادية شاملة. وفي هذا السياق كذلك يمكن إدراج المصالحة مع مصر والتخلي عن تبني التنظيمات الإخوانية ووضع حد للعديد من البرامج التحريضية ضد الدول العربية.
ولأن الأزمة الاقتصادية والمالية في تركيا متفاقمة فقد كانت الحاجة إلى أموال ومساعدات إضافية تستلزم تنازلات أكثر وفتح صفحة جديدة مع السعودية بعد قطيعة استمرت لسنوات كان فيها أردوغان مغرقا في الشعبوية والمزايدة بملف خاشقجي الذي طواه بجرة قلم بعد إحالة قضيته من طرف النيابة العامة التركية إلى السعودية قبل هذه الزيارة بأشهر كإشارة إلى التحول الجديد الذي رسَّمته الزيارة الرسمية إلى السعودية وسط هذا الأسبوع. وهكذا يتضح أن الرهان على معاداة هذه الدول والاقتصار على الدعم القطري وحده كان خاطئا، وأن ثقل النظام العربي المعتدل لم يتغير، وأن مكانة السعودية فيه لم تتأثر.
 
الأساس الثاني الذي بنت عليه تركيا الأردوغانية قوتها، بعد النجاح الاقتصادي، هو الخطاب والسلوك الشعبوي لاستدرار عطف الشارع العربي. ونتذكر جميعا تلك الحركات الأردوغانية البهلوانية في منتدى دافوس سنة 2009 بحضور بيريز وعمرو موسى حين انسحب من المنتدى ليتضح بعد سنوات أن سبب الانسحاب لم يكن الاحتجاج ضد إسرائيل ولكنه كان الاحتجاج على مسير الجلسة الذي رفض منحه امتيازا على غيره في الوقت حين طالب بدقيقة إضافية. أما تداعيات الانسحاب الحقيقية فقد كشفها كبير مستشاريه حينها ووزير خارجيته لاحقا داوود أوغلو بعدما تفرقت بهما السبل الحزبية. لقد صرح أوغلو بالحقيقة قائلا بأن "أردوغان لم يقل الحقيقة، وكلانا يعرف ما جرى تلك الليلة، في دافوس بعد اختفاء الأضواء، هو يعلم أنني قمت شخصيا بدبلوماسية الباب الخلفي للاعتذار لشيمون بيريز بصفتي كبير مستشاري أردوغان وقتها، وهذا الاعتذار تم من هاتفي الشخصي.. عند عودتنا إلى إسطنبول من دافوس، أنا من كتبت الخطاب الذي وجهه أردوغان للشعب التركي، ولو كنت قلت الحقيقة بأننا احترقنا في دافوس لكنت انتهيت، وما كان عينني وزيرا للخارجية بعد هذا الحادث بشهرين.. بعد هذا الاعتذار عادت العلاقات طبيعية مرة أخرى بين إسرائيل وتركيا". هل يُكذب السذجُ الأردوغانيون داوود أوغلو؟ وهل أنكر أردوغان هذه الحقيقة بعد كشفها؟
 
لم يعد أمام أردوغان فرصا كثيرة للمناورة بهذا الخطاب الشعبوي وقد حوصر بالحقائق والضغوط مما جعله يجنح للواقعية السياسية ويصرح بنقيض ما كان يتبناه ويكشف عن براغماتية مقيتة. تخلى أردوغان عن التنظيمات الإخوانية، وغازل النظام المصري الذي كان يصفه بالانقلابي وتمنى مجالسته دون أن يحصل له هذا المراد، وتخلى عن قضية خاشقجي بعد أن كان صارما بخصوصها وورط معه قطر والجزيرة في تبنيها، والتقى أمراءَ السعودية والإمارات بعد طول قطيعة، واستقبل الرئيس الإسرائيلي بمظاهر استعراضية وبروتوكولية لا يحظى بها إلا رؤساء الدول الكبيرة والصديقة، وأدان العمليات التي تنفذها الفصائل الفلسطينية في إسرائيل وتمنى الشفاء لجرحاها، واستسلم للضغط الأمريكي في الحرب الروسية الأوكرانية ليكشف حقيقة شعاراته التي ظل لسنوات يخدر بها حس دراويش السياسة.
 
هل دافِعُ أردوغان في هذا التحول هو مصلحة الدولة التركية؟ المعطيات الموضوعية تؤكد أن هاجس "الحالِم بالعثمانية الجديدة" ليس مصلحة تركيا ولكنه رغبة في تأمين فرص فوزه بولاية رئاسية جديدة سنة 2023 لأنه لا يريد إنهاء مساره السياسي بخسارة تمحو كل تاريخه الذي كان يريد من خلاله وضع اسمه إلى جانب الأب المؤسس أتاتورك.
 
هل تركيا صادقة في فتح صفحة جديدة مع الدول العربية؟ الجواب سابق لأوانه، وما سيؤكده هو أفعال تركيا مستقبلا وليس تصريحات ساستها. ونتمنى صادقين أن يتعظ أردوغان من التجربة السابقة ويعي أن الرهان على الربيع العربي كان سوء تقدير وضربا من ضروب التنجيم وليس الاستشراف المبني على معطيات دقيقة، كما نتمنى أن يكون هذا التقارب اختيارا استراتيجيا وليس اضطرارا تكتيكيا أملته الإحباطات التركية من الرهان على الإدارة الأمريكية وتداعيات الأزمة المالية والاقتصادية في الداخل التركي.
 
لا يصح إلا الصحيح، وحبل الكذب قصير، ومنطق المزايدات والشعبوية آيل إلى الزوال. هذه هي العبرة من التجربة الأردوغانية التي ألهمت جماعات الإسلام السياسي وشكلت حاضنتها ونموذجها المثالي فكانت نهايتها أسوأ من أردوغان نفسه، وأغرقت بلدانها بحروب جانبية ضيعت عليها زمنا ستؤدي ثمنه من مستقبلها في عالم سريع التحولات.
 
والحمد لله أن المغرب انتبه مبكرا وبشكل استباقي لهذه النماذج فلم يضخمها ولم ينبهر بها ولم يعطها أكثر من حجمها ومما تستحقه ولم يعاديها، بل ترك الحكم عليها للاختيار الشعبي الذي كشف محدودية قدراتها.
 
عن موقع "شوف تيفي"