الجمعة 19 إبريل 2024
كتاب الرأي

العمرتي: أوروبا وحماية لاجئي أوكرانيا.. عوامل الجيوسياسيا أم خطيئة الازدواجية في المعايير؟

العمرتي: أوروبا وحماية لاجئي أوكرانيا.. عوامل الجيوسياسيا أم خطيئة الازدواجية في المعايير؟ محمد العمرتي أستاذ القانون الدولي لحقوق الإنسان جامعة محمد الأول وجدة

تنص المادة الثالثة من اتفاقية جنيف الخاصة بوضع اللاجئين لسنة 1951على ما يلي" تطبق الدول المتعاقدة أحكام هذه الاتفاقية على اللاجئين دون تمييز بسبب العرق أو الدين أو بلد المنشأ".

كما أن توفير الحماية للاجئين الهاربين من أوكرانيا خشية  التعرض للاضطهاد لسبب من الأسباب التي حددتها  اتفاقية جنيف لسنة 1951 على سبيل الحصر، وتأمين الحماية والمساعدة الإنسانية للمدنيين، تعتبر من الواجبات والمسؤوليات التي تقع على عاتق الدول بمقتضى قواعد القانون الإنساني وقانون اللاجئين ومعايير القانون الدولي لحقوق الإنسان ، فضلا عن كونها من مسؤوليات المجتمع الدولي برمته تجاه كافة  ضحايا النزاعات المسلحة والاضطهاد بشتى أسبابه واشكاله، وانتهاكات الحقوق والحريات الأساسية في أي رقعة من العالم وبدون تمييز لأي سبب من الأسباب .

ولعل تضامن الدول الأوروبية وتعاطفها العارم مع اللاجئين الهاربين من جحيم الحرب الدائرة رحاها في أوكرانيا، يستمد أساسه بداهة من التقليد العريق لإغاثة المستضعفين ونجدة ضحايا الظلم والاضطهاد والعنف، ومنحهم ملاذا آمنا حماية لحياتهم وحرياتهم. وهي القيم التي تضرب جذورها في عمق الحضارة الإنسانية بتنوع ثقافاتها ودياناتها ومعتقداتها والتي تقوم عليها مؤسسة اللجوء والحماية الدولية المترتبة عنها في نظرية القانون الدولي المعاصر.

بيد أن فتح أوروبا ذراعيها للاجئين الأوكرانيين وترحيبها بهم  وتعاملها معهم بكرم وسخاء قل نظيرهما في تدبير حركات اللاجئين في أوروبا خلال العقود الماضية ، يطرح  حتما سؤالا ملحا ومتجدّدا حول دوافع ومبررات  إقبال الدول الأوروبية بشكل سريع ومكثف على تأمين الحماية الدولية للاجئين الأوكرانيين  الهاربين من أتون الحرب في بلادهم ، بينما ظل  بعض هذه الدول يلتمس الذرائع لتبرير تلكئه وتقاعسه أحيانا  أو استنكافه ورفضه الصريح في أحيان أخرى توفير الحماية الواجبة للاجئين المنحدرين  من مناطق أخرى من العالم مثل اللاجئين من بلدان أفريقيا والشرق الأوسط وأفغانستان ... ؟

ولعل ما يبعث على استغراب المتتبع لحركات اللاجئين ويثير لديه نوعا من الامتعاض هو سقوط أوروبا مرة أخرى في تناقضاتها الكثيرة والمتكررة كلما تعلق الأمر بمنح حق اللجوء في أقاليمها للاجئين المنتمين لبلدان غير أوروبية، وتهافت مواقفها بفعل سياسة الكيل بمكيالين التي تمارسها تجاه هذه الفئات من اللاجئين، مما يحملها النصيب الأوفر من المسؤولية فيما آلت إليه مؤسسة اللجوء وحماية اللاجئين من تراجع خطير، وفي تقويض ما تبقى لها من قيمة قانونية ودلالة رمزية.

فحسب التقديرات الأخيرة لمفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، ناهز عدد اللاجئين الذين أجبرتهم الحرب على الهروب من أوكرانيا إلى دول الجوار ثلاث ملايين شخص (03 مليون شخص) في غضون أقل من شهر على اندلاع العمليات الحربية، كما أن عددهم مرشح للارتفاع بسبب التطور السريع للأزمة الإنسانية المتفاقمة في أوكرانيا.  ولمواجهة هذا التدفق الذي فاق في حجمه وكثافته وتسارع وتيرته ما شهدته أوروبا في تسعينيات القرن الماضي إبان الحرب في يوغوسلافيا السابقة، وأيضا خلال "أزمة اللاجئين" في سنتي 2015-2016 بسبب الحرب في سوريا، التزمت رئيسة المفوضية الأوروبية باسم جميع رؤساء الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي باستقبال جميع الذين أجبروا على الهروب من أوكرانيا وتوفير الحماية لهم.

وإذا كان فتح أوروبا ذراعيها للاجئين الأوكرانيين واستجابتها السريعة للأزمة الإنسانية في أوكرانيا   موقف يقيم البرهان على  أن أوروبا لا زال يوجد فيها مكان لاستقبال  "فئة معينة" من اللاجئين على الأقل ، فإن بعض التصريحات والتعاليق والمواقف السياسية التي تم تسجيلها في سياق الحرب في أوكرانيا بخصوص  الفرق والاختلاف بين اللاجئين الأوكرانيين وغيرهم من اللاجئين المنحدرين من مناطق غير أوروبية ، والتماس مبررات واهية لتسويغ الفرز بين الفئتين من اللاجئين ، قد كشفت مرة أخرى نوازع العنصرية المقيتة وميولات كراهية الأجانب المتجذرة لدى الكثير من السياسيين ووسائل الإعلام في أوروبا.

فلم تتوان بعض وسائل الإعلام الأوروبية عن ترويج الخطاب العنصري المألوف حيث وصفت اللاجئين الأوكرانيين ب " المتحضرين" الذين ينتمون إلى " الطبقة الوسطى" و " المختلفين عن اللاجئين الآخرين". كما أن بعض السياسيين المنتمين الى تيارات اليمين الأوروبي لم يجدوا حرجا في الزعم أن لاجئي أوكرانيا" متفوقين نوعيا" عن اللاجئين المنتمين لأمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا، وأنهم أقرب إلى الأوروبيين من غيرهم بالنظر لانتمائهم العرقي والديني والثقافي. وصرح الوزير الأول لبلغاريا أن هؤلاء اللاجئين الأوكرانيين "أذكياء" و " متعلمين" و "لا يشبهون اللاجئين الذين تعودنا عليهم في السابق، والذين لم نكن متأكدين من هوياتهم حتى ... أشخاص لهم ماضي مشبوه، وقد يكونون إرهابيين" و"أنهم مهاجرين وليسوا لاجئين" ...

كما أن وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي قد وثقت وتداولت مشاهد مؤسفة حول المعاملات التمييزية والمهينة والعنصرية التي كان الأجانب عرضة لها وغالبيتهم من الطلبة الأفارقة، ومنعهم في الحدود مع بولونيا من ركوب الحافلات المخصصة لنقل اللاجئين الأوكرانيين لمجرد كون ملامحهم لا توحي بأنهم مواطنين أوكرانيين.

صحيح أن العوامل والمحددات الجيوسياسية لها تأثير كبير في رسم سياسات اللجوء التي تنهجها الكثير من دول العالم.  ويعرف الخبراء في حركات اللاجئين أن هؤلاء يلتمسون الحماية أولا وعادة في

البلدان الأكثر أمنا والأقرب جغرافيا من المنطقة التي ينزحون منها. فعلى سبيل المثال استقبلت البلدان المجاورة لسوريا، لبنان وتركيا والأردن أكبر عدد من اللاجئين السوريين. كما أن أكثر من نصف اللاجئين من أرتيريا نزحوا نحو أثيوبيا والسودان. ويأوي البنغلاديش أكبر عدد من لاجئي الروهينغا الذين أجبروا على الهروب من الاضطهاد في ميانمار، ونفس الأمر ينطبق على بلدان مثل كولومبيا والباكستان وأوغندا. وأخذا في الاعتبار هذا المعطى بالنسبة لتدفق اللاجئين من أوكرانيا نحو دول الجوار الأوروبي، لا يمكن أيضا إنكار تأثير جملة من العوامل الأخرى (التاريخ المشترك، العداء للروس الذي تتقاسمه مجتمعات أوروبا الشرقية السابقة، الانتماء الديني إلى الكنيسة الأرثودوكسية، توقيع أوكرانيا على اتفاق مع الاتحاد الأوروبي في إطار سياسة الجوار الأوروبية وإعفاء المواطنين الأوكرانيين من شرط التوفر على التأشيرة للدخول والتنقل في فضاء شنغن ....) التي قوت منسوب تضامن حكومات دول الاتحاد الأوروبي مع لاجئي أوكرانيا وتعاطف الرأي العام في هذه البلدان مع الأوكرانيين وتقاسم مشاعر الألم معهم.

لكنه على الرغم من استحضار هذه العوامل المختلفة ذات الطابع الجيوسياسي والتي تؤثر حتما وإن بشكل متفاوت بين الدول في تدبير حركات اللاجئين، فلا ينبغي أن تعتبر لوحدها هي الحاسمة في فهم المفارقة الواضحة التي ما فتئت تتتسم بها طيلة السنوات الماضية سياسة اللجوء في أوروبا وممارساتها المنحرفة عن واجباتها في الوفاء السليم و"بحسن نية" بتعهداتها في توفير الحماية لجميع اللاجئين طبقا لمبدأ عدم التمييز، ووفقا للمبادئ التي أرستها اتفاقية جنيف لسنة 1951 والكتلة المعيارية للقانون الدولي لحقوق الإنسان.

فلعل الجميع قد أدرك أن خطاب الانفتاح على اللاجئين الأوكرانيين والاتفاق غير المسبوق الذي نادرا ما يحصل في القضايا المتعلقة بتقاسم عبئ استقبال اللاجئين بين الدول الأوروبية، وإجماع أعضاء الاتحاد الأوروبي على استقبال اللاجئين الأوكرانيين دون اشتراط وضع طلبات الحصول على صفة اللاجئ وفقا للمساطر الوطنية ولمدة ثلاث سنوات، تعتبر مؤشرات دالة على رد فعلي يكاد يكون آليا، يحركه في العمق الشعور القوي بالتشابه والقرب والانتماء إلى فضاء عرقي وثقافي واحد ومتجانس.

إن المعاملة الانتقائية التي تنهجها أوروبا تجاه اللاجئين، وتنكرها لمسؤوليتها القانونية والأخلاقية في توفير الحماية لضحايا الاضطهاد عبر العالم دونما تمييز بينهم بسبب اللون او العرق او الدين او الجنسية يعد انتهاكا صارخا لحق اللجوء باعتباره حقا أساسيا وعالميا.   كما أن تمييزها بين اللاجئين الأوكرانيين الذين يستحقون الحصول على حمايتها وغيرهم من «اللاجئين المزيفين" أو "المشبوهين " الوافدين من مناطق بعيدة، فضلا عن استقبالها ما يفوق ثلاثة ملايين لاجئ أوكراني في أقل من ثلاثة أسابيع مقابل سياسة المنع الممنهج من وصول غيرهم من " تعساء الأرض الجدد " الى الحصن الأوروبي، يؤكد بالملموس اعتمادها لمعيار «الأفضلية الأوروبية" في حماية اللاجئين على شاكلة " الأفضلية الوطنية" التي يرفع شعارها اليمين المتطرف في أوروبا.

وهكذا سوف يحتفظ التاريخ ويذكر أنه أثناء الهروب الكبير من أوكرانيا التي تعرضت لعدوان كاسح من طرف الجيوش الروسية تم منع الهاربين الأفارقة وغيرهم من المنحدرين من بلدان غير أوروبية، من ركوب القطارات والحافلات، أوتمّ إبعادهم وصدّهم على حدود الاتحاد الأوروبي وتركهم لمصيرهم المجهول لأنّهم أشخاص غير مرغوب فيهم.