السبت 20 إبريل 2024
مجتمع

الوردي يرثي النقيب بوعشرين

الوردي يرثي النقيب بوعشرين الراحل عبد اللطيف بوعشرين وحكيم وردي(يسارا)
ضمن سلسلة مقالات وحي القلم، التي يخص بها حكيم وردي، عضو نادي قضاة المغرب، والباحث القانوني، جريدة "أنفاس بريس"، فيما يلي مقالة عنونها ب "أمير المرافعة"، تأبينا الراحل النقيب عبد اللطيف بوعشرين، الذي وافته المنية السبت 19 فبراير 2022:
 
متلما تتحجر الدموع في المآقي، تتكلس الكلمات على الشفاه. ففداحة الخسران لا تعوضها آيات البيان. وما من لغة غير الصمت الشائخ تجلي عن الذات ما داهمها من أحزن. لتغدو الكتابة عن الغياب وهم من الإحساس بالسلوى، وربما قبض يائس على الذكرى، أوانتقاما من الفقدان. 
كما الآن، أحاول أن أحرر العبارة من الهذيان، وأحذر الذاكرة من النسيان، عسى أن تشرق في الدواخل شمس الإيمان، ليرسخ اليقين بلا دليل أو برهان على أنه بعروج روح نقيب الأجيال الأستاذ عبد اللطيف بوعشرين إلى مقام القرب بجوار الحنان المنان ستحتاج المحاماة في المغرب إلى عناية إلاهية تتجلى عليها بقوله " ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها"، 
وإلا فلا عزاء إلا من رب السماء ليخرج من رحم مهنة النبل من يحفظ للبذلة كبرياءها وللمرافعة شموخها. 
فقدرنا اليوم أن نعيش زمن الخسارات الكبرى برحيل الكبار.
والنقيب عبد اللطيف بوعشرين كان واحدا من الكبار. أولئك الذين عركتهم التجارب، وصهرتهم النوائب، فاغترفوا من معين الحكمة، وارتقوا في معارج السمو، وباتوا وقد أصبحوا  نبلاء. وبكل بساطة فهموا عمق الحياة بعدما اكتمل فيهم الانسان.
لم يكن ابن درب السلطان رجلا سهل النسيان، لم يكن ضلا شاردا في زوايا الجلسات، أو شقيا لاهثا وراء فتات الأتعاب والملفات، أو خامل الذكر عندما تدلهم الخطب والنكبات.
كان محاميا كامل المحاماة، هيابا في المرافعات، بارعا في ارتجال أفخم العبارات حتى في أقسى اللحظات.
ولا شك أن الذين تشنفت أسماعهم سيتذكرون حضوره الطاغي بحشرجة دافئة في الصوت. ذلك الصوت الذي استحال إلى بصمة، يخفت في حكمة ويعلو كهدير.
وكفرسان الدير، تنسك في محراب العدالة لأكثر من نصف قرن، نقيبا محمولا على أكتاف الأتباع والأشياع، وأمينا عاما لاتحاد المحامين العرب بنخوة لا تخطؤها العين، منافحا عن صحراء مغربه الذي عشقه حتى النخاع، بعدما باذله حبا باعتراف. حين أدركه اللطف الخفي بعناية ملكية سامية أسعفته على زرع كبد عوض به كبده المفطور من كثرة ما تكبده من هموم المهنة التي كان فارسها المتوج.
ويا لسخرية الأقدار، ففي الوقت الذي كان الفقيد منذورا للموت بإجماع من عاش معه المسار المؤلم لزرع الكبد الأجنبي على جسمه المعلول، انبعت كطائر الفينيق من رماد الفناء، وحلق كالنسر فوق القمم الشماء، منافحا عن الحق مدافعا عن القانون في أكثر الملفات استئثارا باهتمام الرأي العام.
ولكن حين يدنو الأجل المحسوم في الأزل، يرافع النقيب مرافعته الأخيرة في جلسة امتدت لساعات، يمرض لأيام معدودات، ويسلم الروح لباريها في غفلة من الحياة.. كالتزام بالموت داخل أجل معقول.
أتحسر عن تلك اللحظات الماتعة حينما كنت أخلوا به في لقاءات عابرة لأرمم الذاكرة، تسرقنا الأوقات في استحضار دفع شكلي صاغه بحنكة ساحر قبض على روح المشرع متلبسا بتناقض استشكل على القضاء، أو في التنذر بنكتة حية عن واقعة يرويها بسخرية تسيل لها العين دمعا ضاحكا يملأ الروح سعادة والقلب صفاء، 
أتذكر ولا أتحسر، فقد عاش أكثر من حياة.. لا الموت سيغيبه، ولا المحاماة ستعوضه.. سيظل صوتا يتردد في صدى المؤمنين بالعدالة: 
(املأ نفسك ثقة بالعدالة. فمن يبحث عن العدالة ينبغي له حتما أن يؤمن بها، فهي ككل المقدسات الأخرى لا تكشف عن وجهها الوضاء إلا للمؤمنين.)
رحم الله السيد النقيب عبد اللطيف بوعشرين وفي الزميلين بسمة وجهاد وباقي الأبناء بقية من عزاء.