مسألة التضخم الحزبي في المشهد السياسي المغربي لم تعد مجرد قضية شكلية ترتبط بكثرة التنظيمات والفراولة الحزبية، بل غدت ظاهرة مرضية أفقدت السياسة معناها وقيمتها. أحزاب تتكاثر كما لو كانت نسخاً متشابهة، دون أن تحمل اختلافاً جوهرياً أو مشاريع فكرية بديلة. وهكذا تحولت الساحة السياسية إلى فسيفساء مشوّهة تستهلك الطاقات وتبدد المعنى.
حين نتحدث عن التضخم في هذا السياق لا نعني غنى التجربة الديمقراطية، بل على العكس، نكشف فقراً في المضمون وغياباً للرؤية وانكماشاً في الفكر والإبداع القادرين على تحريك المجتمع نحو آفاق جديدة.
حين نتحدث عن التضخم في هذا السياق لا نعني غنى التجربة الديمقراطية، بل على العكس، نكشف فقراً في المضمون وغياباً للرؤية وانكماشاً في الفكر والإبداع القادرين على تحريك المجتمع نحو آفاق جديدة.
في ظل هذا المشهد تتولد الأفكار القصية كنتيجة طبيعية لهيمنة الشكل على المضمون. فبدل أن يُفسح المجال للفكر الناقد والمتجدد، يتم دفعه بعيداً عن دائرة الفعل والتأثير، حتى لا تهتز التوازنات الهشّة التي تضمن بقاء نفس النخب المتحكمة في المشهد العام. الفكر في هذه الحالة لا يُقصى فحسب، بل يُقصى قصياً، أي يُبعد تدريجياً عن مركز النقاش السياسي ليتحوّل إلى ظلال باهتة خارج المجال العمومي. وهكذا يُفرَّغ هذا الأخير من الحوار الحقيقي ويكتفي بشعارات فضفاضة تتكرر في كل موسم، بما فيها المواسم الانتخابية.
إن التضخم الحزبي ليس دليلاً على التزام المغرب بحقوق الإنسان والحريات والتعددية الفكرية، بل علامة على عجز النظام السياسي عن إنتاج أطر حزبية قوية وفاعلة. فبدل أن تكون الأحزاب مختبرات للأفكار والإبداع وحاضنات للنخب الجديدة، تحولت إلى كيانات انتخابية موسمية لا تعيش إلا على وقع الحملات، رهينة للتوافقات الظرفية والمصالح الضيقة. أما الفكر الحر، الذي يفترض أن يكون روح السياسة، فيتم قصيه
بعيداً عن المجال العمومي، ويُدجّن داخل مراكز بحث ومؤسسات شكلية بلا سلطة فعل ولا أثر في القرار.
ثنائية "التضخم الحزبي والقصي الفكري" أنتجت مجتمعاً مأزوماً، مواطنين فاقدين للثقة، وشباباً يهرب من السياسة لأنها لا تمنحه أفقاً، ومجالاً عمومياً فارغاً تملؤه الدعاية أكثر مما يملؤه النقاش الجاد. وهنا يتجلى الخلل الأكبر: نظام سياسي يحافظ على توازنات شكلية بخلق تعددية رقمية بلا مضمون، وفي الوقت نفسه يدفع الفكر النقدي بعيداً عن الساحة.
ثنائية "التضخم الحزبي والقصي الفكري" أنتجت مجتمعاً مأزوماً، مواطنين فاقدين للثقة، وشباباً يهرب من السياسة لأنها لا تمنحه أفقاً، ومجالاً عمومياً فارغاً تملؤه الدعاية أكثر مما يملؤه النقاش الجاد. وهنا يتجلى الخلل الأكبر: نظام سياسي يحافظ على توازنات شكلية بخلق تعددية رقمية بلا مضمون، وفي الوقت نفسه يدفع الفكر النقدي بعيداً عن الساحة.
لكن هذا الوضع لا يمكن أن يستمر كما هو، لأن القصي الفكري يولّد فراغاً لا يملؤه سوى الغضب الاجتماعي أو العزوف الجماعي. أما التضخم الحزبي فينتج ابتذالاً يفرغ السياسة من معناها. فإذا لم تُستعد العلاقة بين الفكر الحر والعمل الحزبي الجاد، فإن المشهد سيبقى محكوماً بالجمود: لا أحزاب تصنع المعنى، ولا فكر يفتح الأفق، بل مجرد إعادة إنتاج للفراغ ذاته تحت عناوين مختلفة، وهو ما يبهج أشباه المناضلين وأشباه النخب المستهلكة على الساحة السياسية.