الجمعة 19 إبريل 2024
رياضة

يزيد بركة: تيران "القُرَعْ" والروح الرياضية بين المغرب والجزائر..‏

يزيد بركة: تيران "القُرَعْ" والروح الرياضية بين المغرب والجزائر..‏ يزيد بركة، وعناق بين اللاعب الجزائر البلايلي، ولييد كرتي في مباراة المغرب والجزائر
قليل جدا من يعرف أنني لاعب جيد لكرة القدم، وهذه المهارة لم أكتسبها من السياسة ‏الطبقية في الرياضة التي تنتهجها الدولة منذ الستينات في مقدماتها الأولى، بل من الرياضة ‏الشعبية التي نشأت وقد فتحت عيناي عليها، حيث كانت في متناولها مساحات مكانية قرب كل ‏حي لممارسة الرياضة، لا يوجد من يراقبها أو يتحكم فيها، ولهذا مثلي ككل الشباب في سني ‏وأنا أسكن في كريان بنمسيك (حي أحد وجهاء الدار البيضاء في القرن التاسع عشر ‏والعشرين الذي يملك حوالي ثمن الدار البيضاء الحالية)، حيث كنت لا أفارق "تيران القُرَعْ" قرب سينما ‏العثمانية التي ستبنى فيما بعد، وهو تيران لم يبق منه شيء الآن. وسمي الفريق بهذا الاسم لأن ‏كل أعضاء الفريق، بدون استثناء، حلقوا رؤوسهم احتجاجا على المستعمر الذي لا يريدون ‏مسايرته في مظاهر تطويل الشعر. حاليا وكلما انتظرت رفيقي منعم أوحتي في مقهى قرب ‏أحد مقرات فريق كرة قدم عتيد يوم السبت أو الأحد صباحا لكي ننتقل إلى اجتماعنا الحزبي ‏بالرباط ألاحظ قدوم آباء أو أمهات بسياراتهم يحملون أولادهم إلى ملعب الفريق القريب من ‏المقهى بعد تناول الفطور، فأقول مع نفسي، هذه هي نتيجة السياسة الطبقية حتى في الرياضة ‏والتي أطلقت مافيا العقار لتأكل كل المساحات التي كانت متنفسا رياضيا لأبناء الشعب الفقراء ‏مثلي وأبناء الشعب ذوي الدخل المحدود.‏
صحيح لم تتمكن المافيا من التهام كل شيء وصحيح أن الأغنياء لا يمكنهم ولو أرادوا أن ‏يسيطروا وحدهم على الرياضة، بل لا بد من الانفتاح على العمق الشعبي الذي يكافح بكل ‏الوسائل للتأقلم مع الوضع، ولهذا تم الحفاظ على بعض النقاط القليلة دون التهامها وتم خلق ‏سماسرة لاكتشاف المهارات في تلك المساحات القليلة، ولكن لا يمكن مقارنتنا بالبرازيل مثلا ‏في السماح بالمتنفس المكاني المجاني لممارسة الرياضة.‏
‏ كرة القدم التي كنت أمارسها في تيران القُرَعْ لا علاقة لها بالسياسة، لكن في 1956 سأكلف ‏من طرف سي عبد الله المذكوري الذي كان استقلاليا ووطنيا فذا وهو مدير مدرسة قرية الجماعة ‏الابتدائية بسباتة، وهي القرية التي كانت في طور التكوين إذاك بإلقاء كلمة عيد العرش في تيران ‏القُرَعْ. بعد حوالي عشر سنوات فهمت أن هناك علاقة بين السياسة وبين الرياضة. ‏
لكن فهمي لم يكن تاما، لأني نفذت أمر المشاركة الرياضية الذي وردني من القيادة خارج ‏المغرب وأنا في الجزائر في إطار النشاطات الرياضية التي كانت تقام في الحي الجامعي ببن ‏عكنون بالجزائر لعقد علاقات إنسانية مع طلاب جزائريين من اليسار ومع الفلسطينيين الذين ‏بدأوا يتوافدون بالعشرات على العاصمة في 1966‏..
كان عندي عيب في ممارسة لعبة كرة القدم، وهو أن أضع حاجزا بمرفقيي الإثنين وأنا ‏أجري مع الخصم ويديي عند صدري، ومرفقيي يمنعانه من الاحتكاك بي جسديا، في حين أنه ‏يجب ترك اليدين حرتين، وكنت لا أعرف أن من حق الخصم أن يبتعد قليلا ويصدمك بقوة ‏بكتفيه، كنا نلعب في بنعكنون كرة القدم في ملعب الهوند (كرة اليد) والسقطة فيه غاية في خطورة ‏النتائج، وقد استغل طالب جزائري طريقة لعبي المستفزة وسار معي بعض الخطوات القليلة ‏وبعد ذلك ابتعد وهجم بكل ثقله على جسمي بكتفه وأخرجني من الملعب بحوالي خمسة أمتار، ‏كان من نتائجها كسر في عظم المرفق في عدة أماكن تطلب ضمادة الكسر لمدة من الزمن لم ‏أعد أتذكرها، ولم أجد حتى من يساعدني على أداء ما بذمتي من مصاريف المستشفى العمومي ‏بالجزائر لأن المنحة لم أتوصل بها بعد، وليس هناك من يمكنني الاستنجاد به من عائلتي الفقيرة ‏لأداء ما بذمتي وهذه قصة أخرى ليس هناك حيز لها الآن.‏
بعد سنوات من الحياة السياسية اطلعت من قراءات عديدة وخاصة أثناء الاعتقال وبعده أن كل ‏التجارب الديكتاتورية تعمل جاهدة، على أن تنهش من كل الحياة المجتمعية وتعبئه في قمقمها من ‏الفلكلور إلى الرياضة.. ولنا فقط أن نستحضر حمولة الكراهية التي كان يحملها فريق ألمانيا أيام هتلر ‏وحمولة الكراهية التي كان يحملها الفريق المضاد أيضا، لنحكم على المخطط له من طرف ‏الامبرياليات الصاعدة آنذاك لتأجيج الصراع، منذ ذلك اليوم الذي وعيت بهاته المخططات، أصبحت أدعو إلى ‏أن تكون القيم الإنسانية هي التي تتحكم في هذه المجالات المختلفة وليست سياسة الدولة أو ‏سياسة المعارضة لأن المعارضة بإبعاد الاستغلال السياسي عن الحقل الرياضي ستكون هي الرابحة إذا كانت فعلا ‏ذات نية حسنة في نضالها.‏
تابعت مباراة الجزائر والمغرب، ورغم أن المشهد الإعلامي قبلها كان حاميا ومغرضا فقد ‏كان الجمهور المغربي والجمهور الجزائري في قمة هذا التصور الذي عبرت عنه. وقد ‏تعاطفت أشد التعاطف مع الفريقين ومع الجمهورين.‏ كانت هناك بعض الهفوات في التنافس من الفريقين، ولكنها كانت كلها هفوات غير مخطط لها ‏أن تقع، سريعا ما تعود المباراة إلى ديدنها الأصلي الذي يريده الجمهوران : التنافس في حدود ‏حضارية، تحية للفريقين معا وهنيئا للفريق الجزائري المنتصر وتحية للجمهورين والخزي ‏لأي جهة تسعى لأن يتواجه الشعبان في حرب مدمرة ستكون وبالا على الجميع وعلى المنطقة. ‏
انطلاقا من هذه المباراة أقول لمن يزند النار صباح مساء، والله لن تستطيعوا أن تتخطوا الروح ‏الحضارية التي بعثها الفريقان والجمهوران الجزائري والمغربي، وإذا ما تم تخطيها ستكون هاته النار ‏وبالا على من زندها .