الجمعة 19 إبريل 2024
اقتصاد

الإثراء غير المشروع.. نحو مقار بة قانونية ملائمة لمكافحته

الإثراء غير المشروع.. نحو مقار بة قانونية ملائمة لمكافحته يعد الإثراء غير المشروع أحد تجليات الفساد في المغرب
بينما كان بشير الراشدي، رئيس الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، يقدم تقرير الهيئة عن سنة 2020 باللغة الفرنسية، استعمل كلمة “الفساد” باللغة العربية، وقال أن الكلمة بالفرنسية لاتؤدي نفس المعنى، ويعد الإثراء غير المشروع أحد تجليات الفساد في المغرب، مما جعل الهيئة تخصص له تقريرا موضوعاتيا لوحده، حيث كشف الراشدي عن ضرورة وضع قانون خاص لموضوع محاربة الإثراء غير المشروع، تكون له علاقة مع قانون التصريح بالممتلكات، الذي يدبره المجلس الأعلى للحسابات، ليكون فعالا.
من منطلق الوعي بتفاقم مظاهر الفساد، اتجه المنتظم الدولي إلى اعتبار الإثراء غير المشروع سلوكا يتعين تجريمه من طرف التشريعات الوطنية، كضمانة وقائية لحماية أموال الدولة، وتحصين الذمم المالية للمسؤولين عن تدبير الشأن العام، وترسيخ الوعي بأن ممارسة الوظيفة لا يمكن أن تشكل فرصة لممارسة الفساد وتحصيل أموال وفوائد غير مشروعة.
وتأكدت أهمية تجريم هذا السلوك دونما اعتبار للجرائم التي أدت إليه، بالنظر لطبيعة أفعال الفساد باعتبارها أفعالا معقدة وغامضة وتتميز بطابع السرية والتواطؤ، مما يُصعِّب عملية اكتشافها، ويستدعي بالتالي تجريم السلوك المُنْبِئ عنها والمعروف بالكسب أو الإثراء غير المشروع، واعتباره جريمة في حد ذاتها مكتملة الأركان، تستلزم ترتيب الجزاء المناسب عليها.
الإثراء غير المشروع في التشريعات المقارنة
دعت الاتفاقية الأممية لمكافحة الفساد الدول الأطراف إلى النظر، رهنا بدستورها وبالمبادئ الأساسية لنظامها القانوني، في اعتماد ما يلزم من تدابير تشريعية وتدابير أخرى لتجريم تعمد موظف عمومي إثراء غير مشروع، أي زيادة موجوداته زيادة كبيرة لا يستطيع تعليلها بصورة معقولة قياساً إلى دخله المشروع.
ولنفس الغاية، نصت اتفاقية البلدان الأمريكية لمكافحة الفساد على أنه يتعين على كل دولة، رهنا بدستورها والمبادئ الأساسية لنظامها القانوني، تجريم الإثراء غير المشروع الذي يتضمن زيادة كبيرة في أصول مسؤول حكومي لا يمكن تفسيرها على نحو معقول قياسا لمكاسبه المشروعة أثناء أداء مهامه.
كما دعت اتفاقية الاتحاد الإفريقي لمنع ومكافحة الفساد الدولَ الأطراف إلى اتخاذ الإجراءات اللازمة لِما يُثبت في قوانينها أن الكسب غير المشروع جريمة. وطالبت كلَّ دولة طرف لا تعتبر الكسب غير المشروع جريمة تعاقب عليها قوانينُها، بتوفير المساعدة والتعاون للدولة المقدِّمة للطلب في ما يتعلق بهذه الجريمة.
واعتبرت الاتفاقية العربية لمكافحة الفساد أن الإثراء غير المشروع يندرج ضمن جرائم الفساد المنصوص عليها بهذه الاتفاقية، مطالبة الدول الأطراف باتخاذ ما يلزم من تدابير تشريعية وتدابير أخرى لتجريمه.
وبالإضافة إلى هذه الاتفاقيات.
وجرم المشرع الفرنسي فعلا مشابها لجريمة الإثراء غير المشروع وهو الذي أطلق عليه اسم “عدم القدرة على تبرير الموارد”، وذلك من خلال معاقبة الشخص الذي يراكم الثروة أو يخلق مستوى نوعيا للمعيشة دون أن يكون قادرا على تبرير هذا الوضع، وذلك في ظل ربطه علاقات طبيعية مع شخص مرتكب لجرائم جنائية خطيرة، كما أن قانون الضرائب الفرنسي ذهب في نفس الاتجاه.
من خلال استقراء هذه التشريعات يلاحظ وجود صورتين أساسيتين تنتظمان جريمة الإثراء غير المشروع:
الصورة الأولى: وهي التي لا يَثْبُت فيها الاستغلال الفعلي على الموظف ومن في حكمه، لكن يثبت أن لديه في ماله أو ثروته زيادةً عجز عن إثبات مصدرها. 
الصورة الثانية: وهي التي يثبت فيها على الموظف ومن في حكمه، أيا كان نوع وظيفته، استغلالٌ بالفعل لأعمال أو نفوذ أو ظروف وظيفته أو مركزه، وحصولٌ كذلك بالفعل على مال غير مشروع نتيجة لهذا الاستغلال.
الإثراء غير المشروع عند المشرع المغربي
انصرف اختيار المشرع المغربي إلى طرح مشروع تجريم الإثراء غير المشروع من خلال إدراجه كجريمة جديدة ضمن مقتضيات مشروع القانون الجنائي المرتقب.
وقدمت الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها هذه الوثيقة التي تعكس مقاربتها لاختيارات المشرع الجنائي الوطني، ومنظورها لهذه الآلية القانونية، واستشرافها لمستلزمات النهوض بها لتضطلع، بالفعالية المطلوبة، بدورها في مكافحة آفة الفساد.
وقد أبدت الهيئة عددا من الملاحظات على ما راج في نقاشات الأغلبية والمعارضة في الحكومة السابقة، قبل أن تقرر حكومة أخنوش الحالية سحب المشروع إلى أجل معين، ومن بينها:
المؤشرات الموضوعية لاكتشاف التطور المشبوه للثروة لا يمكن أن تَستنِد فقط إلى ما يقدمه المعنيون من تصريحات حول ثرواتهم، بل يتعين أن تساهم فيها أيضا المعطيات المتوفرة لدى عدة مؤسسات وطنية كالمحافظة العقارية ومكتب الصرف وإدارة الضرائب والجمارك ومؤسسات الائتمان وغيرها من الهيئات العامة والخاصة، وذلك باعتبارها هيئات قادرة، بالنظر لاختصاصاتها وصلاحياتها، على أن تشكل مصادر أساسية وروافد حقيقية لرصد تطور الثروات؛ بما من شأنه أن يُوفِّر بالتالي ضمانات مهمة للتفعيل الأمثل لهذه الآلية القانونية الجديدة.
إرجاء عملية مراقبة التطور المشبوه للثروة إلى غاية نهاية وظائف أو مهام الأشخاص المعنيين، بالإضافة إلى كونه قد يجعل أصنافا من الملزمين منفلتين من هذه المراقبة لامتداد ممارستهم للوظائف والمهام إلى سنوات متعددة أو حتى إلى عقود من الزمن، فإنه يُقوِّض ركيزة أساسية من ركائز منظومة العقاب والجزاء عن الجرائم المرتكبة؛ وهي المتعلقة بمبدأ راهنية الجزاء، الذي يستدعي مراعاة التناسب بين الزمن الذي ارتكبت فيه الجرائم المفترضة لتحقيق الإثراء غير المشروع وزمن إصدار الأحكام والنطق بها في هذه الجرائم؛ بما يشكل خرقا سافرا لمبادئ الجزاء والعقاب كما هي متعارف عليها.
تنصيب المجلس الأعلى للحسابات جهةً وحيدة وحصريةً لرصد حالات الإثراء غير المشروع، من شأنه أن يعطل إمكانيات التبليغ من طرف مسؤولي الإدارات المعنية الذين يمكن أن تتوفر لديهم معطيات موضوعية على الإثراء غير المشروع لموظفي تلك الادارات، كما يعطل صلاحيات بعض هيئات إنفاذ القانون بخصوص رصد هذه الجريمة وإحالتها على العدالة.
إسناد إثبات الإثراء غير المشروع إلى المجلس الأعلى للحسابات، يثير إلى السطح التساؤل عن حدود سلطة النيابة العامة المختصة بشأن الملفات التي ستحال عليها من طرف المحاكم المالية بهذا الخصوص.
فرغم أن المحاكم المالية بإمكانها إصدار الغرامات في إطار مزاولتها لاختصاص التأديب المتعلق بالميزانية والشؤون المالية، إلا أن تنصيص المشروع على إقرار الحكم بمصادرة الأموال غير المبررة طبقا للفصل 42 من القانون الجنائي، والتصريح بعدم الأهلية لمزاولة جميع الوظائف أو المهام العمومية طبقا للفصل 86 منه، يؤكد أن المجلس الأعلى للحسابات سيكون مطالبا بإحالة هذه الملفات على رئاسة النيابة العامة لاتخاذ ما تراه ملائما بشأنها، على غرار الملفات التي يحيلها عليها والتي يتبين له أنها تنطوي على أفعال جرمية.
غياب العقوبة السالبة للحرية التي تعتبر الجزاء الأصلي الذي يتعين ترتيبه على هذه الجريمة، بالنظر لمفعولها العقابي ولأثرها الوقائي، خاصة وأن مختلف التشريعات التي اعتمدت جريمة الإثراء غير المشروع نصت على هذه العقوبة.
الإثبات في الإثراء غير المشروع.. من يتحمله؟
يتعين القول بأن القاعدة العامة في المواد الجنائية هي أن عبء إثبات الاتهام يقع على المدعي وهو النيابة العامة، ويشمل هذا العبء إثبات جميع أركان الجريمة، لأن هذا الإثبات هو في حقيقته إثبات لتوافر الركن الشرعي للجريمة.
إلا أن هذه القاعدة ليست مطلقة أو أبدية، بل إن المشرع الجنائي تدخل في حالات محددة لقلب أدوار الفاعلين فيها؛ حيث تَبيَّن له مرارا، بالنظر إلى أسباب عديدة منها صعوبة الإثبات، وضرورة توقيع العقاب، ووجود احتمال في إذناب المتهم، ضرورة إعفاء سلطة الاتهام من عبء الإثبات، وتحميل المتهم عبء إثبات العكس؛ أي البراءة.
وإذا كان بعض الفقه يُقر بوجاهة وضرورة لجوء المشرع إلى قلب عبء الإثبات في نوع معين ومحدود من الجرائم، نظرا لطبيعتها وخصائصها، مع اعتبارها استثناءات على قاعدة تحميل النيابة العامة عبء الإثبات، فإن جريمة الإثراء غير المشروع تشترك، من حيث طبيعتها وخصوصيتها، مع هذه الجرائم في قيامها على قرائن تفترض استغلال الموظف العمومي لمنصبه في تحقيق إثراء لا يتناسب مع دخله المشروع؛ بما يجعل انصراف المشرع نحو قلب عبء الإثبات فيها، بمطالبة هذا الموظف بتبرير المصدر المشروع للثروة، اختيارا مُبرَّرا ومستساغا ولا مناصّ من إقراره، كإجراء قضائي لضمان المتابعة الناجعة لهذه الجريمة.
أما بالنسبة للمسألة الثانية المتعلقة بالوعاء القانوني الأنسب لتوطين هذه الجريمة، فينبغي التنبيه إلى أن جريمة الإثراء غير المشروع تنفرد بخصائص تميزها عن باقي جرائم الفساد الأخرى. فمن جهة، يلاحظ عدم وجود تعريفات في الفقه القانوني لهذه الجريمة، مما جعل هذا الفقه يقتصر على شرح التعريفات التي توردها مختلف التشريعات لهذه الجريمة، ومن جهة ثانية، هناك تفاوت في أحكام وضوابط جريمة الإثراء غير المشروع من قانون لآخر، وذلك بحسب ما يرى واضعو القانون من أنه يحقق أكبر قدر من المصلحة المبتغاة من التجريم، وحسب التوازن المطلوب بين المبادئ القانونية في دستور كل دولة، ومن جهة أخيرة، تتميز جريمة الإثراء غير المشروع عن جرائم الفساد الأخرى باختلاف وسيلة الإثبات بينهما؛ ففي جميع جرائم الفساد يكون عبء إثبات تحقق أركان الجريمة وارتكابها على النيابة العامة استنادا الى قرينة البراءة المفترضة في الأحكام الجنائية، في حين يكون عبء إثبات براءة الأموال المحققة في جريمة الإثراء غير المشروع على كاهل الأشخاص المعنيين.