الجمعة 19 إبريل 2024
اقتصاد

هل مازال الفلاح يعمل بِالنِّيَةْ و ينضبط لعملية اَلْحَرْثْ اَلْبَكْرِي وَالْحَرْثْ عْلَى النْشَافْ ؟

هل مازال الفلاح يعمل بِالنِّيَةْ و ينضبط لعملية اَلْحَرْثْ اَلْبَكْرِي وَالْحَرْثْ عْلَى النْشَافْ ؟ كانت الفلاحة البورية تخضع لحسابات فلكية ومواقيت مدروسة
بعد الإنتهاء من أشغال موسم الصيف وجمع ما تيسر من محصول الحصاد، ووضع حبوب القمح والشعير داخل "اَلْمَطْمُورَةْ"، وبناء "تَمْلَاسْ" أهرامات "قْرَابَصْ" التّبن في فضاء "اَلْـﯕَاعَةْ"، وقضاء أيام ممتعة بين جْمَاعَةْ ولَمَّةْ ختم القرآن وأعراس ومناسبات ختان الأطفال و الزواج، وزيارة مواسم "اَلتْبَوْرِيدَةْ" الحاملة لمعنى تَامَغْرَبِيتْ على مستوى الفرجة والفرح والاحتفال بالعادات وطقوس وتقاليد الفلاحين من أهل البادية، مباشرة بعد الإنتهاء من ذلك يشمر الفلاح البسيط على ساعديه للاستعداد للموسم الفلاحي القادم.
ابتداء من شهر شتنبر، كان الفلاح يفتح الأبواب الخشبية لغرفته الخاصة المعزولة عن أعين الصغار لكي لا يعبثوا بمحتوياتها المغرية الصّنع. تلك الغرفة الفريدة بهندستها البسيطة التي شيدت بالطّوب والتراب والتّبن، وزيّن سقفها بخشب "اَلْـﯕَايْزَةْ" و نبات القصب، والتي تضم كل وسائل العمل والإنتاج الموسمي، حيث يخرج محراثه الخشبي التقليدي الذي لا بد له من الصيانة والمراقبة وتجديد ما ضاع منه من أجزاء عند الحداد، دون أن ينسى الإفراج عن لوازم أخرى لها أهميتها مثل "اَلشْمِيطَةْ" و "اَلْمَخْيَطْ" و "السَّكَةْ" و "اَلْعْرُوسَةْ" و "اَلْـﯕفْيَةْ" و "اَلزْﯕَاوَةْ" و "اَلْعَتْلَةْ"، فضلا عن مراقبته للوضع الصحي والبدني للدابة التي تجر محراثه وتشق بعضلاتها أرضه الزراعية.
كان الفلاح يعتمد في حرث قطعة أرضه على الدواب، "اَلزُّوجَةْ" أو "اَلْفَرَّادِي" حسب مكانته الاجتماعية والاقتصادية، حيث تجد من الفلاحين من يستثمر قوة الإبل والخيل في عملية الحرث التقليدي، وهناك من يعول على البغال والحمير وحتى البقر. لذلك لا غرابة في أن تسمع المثل القائل: "اَلجّْمَالْ كْتَافْ ـ وُاَلْخَيْلْ عْرَافْ ـ وُالثِّيرَانْ عْلَافْ".
ورغم محدودية مساحات الأراضي الزراعية البورية في العديد من المناطق، والتي هي في ملكية الفلاح البسيط تجده يوزع تربتها لحصص زراعية بالتناوب طيلة الموسم الفلاحي، طبعا من أجل الاستفادة من الإنتاج الزراعي والبواكر، منها ما يوجه للبيع يوم السوق الأسبوعي وجزء منها يبقى للإستهلاك الأسري، ومشاركته مع أفراد العائلة في المدينة.
كان الفلاح يبدأ بزراعة الحبوب، ثم القطاني والذرة، ومن تمة ينتقل إلى غرس قطعة مخصصة لـ "لَبْحَيْرَةْ" بمختلف أنواع الفواكه الموسمية، والخضر البورية (القمح والشعير، وجلبانة والفول، والعدس، والحمص، والدلّاع، و السْوِيهْلَةْ، واَلْفَـﯕُّوسْ والسْلَاوِي والْـﯕَرْعَةْ والَّلفْتْ) كل هذا يتم حسب جدولة زمنية مضبوطة على عقارب ساعة "مْنَازَلْ" فلاحية.
لقد كان الفلاح البسيط سابقا لا ينتظر ولا يترقب تباشير، نشرات أحوال الطقس التي تبشر بقدوم أمطار الخير للقيام بالتزاماته الزراعية والفلاحية، بل كان يعول على حدسه وتجاربه والنظريات الواقعية التي درسها في مدرسة الحياة أبا عن جد، لأنه يؤمن بالمثل القائل: "اَلْحَرْثْ بِالنِّيَةْ وَالزّْوَاجْ بِالنِّيَةْ وَاَلِّلي دَارْ اَلنِّيَةْ حَاجْتُو مَقْضِيَةْ". لذلك تجد الفلاح يتحرك بنشاط وهمة مستعينا بموروثه الثقافي الفلاحي المكتسب عبر التاريخ وتجاربه الميدانية مع تقلبات "لَمْنَازَلْ" الفلاحية.
سابقا كان الجميع يتعاطى للحرث البكري بطريقة تلقائية، ومضبوطة في الزمان والمكان، مع "حَلَّانْ اَلزَّرِّيعَةْ"، وتحديدا مع مستهل شهر أكتوبر الفلاحي: "بَكْرِي كَنَّا نْحَرْثُوا قْبَلْ مَا طِّيحْ اَلشْتَاء. كَنَّا نْحَرْثُوا عْلَى اَلنْشَافْ. كَنَّا نْعَجُّو. وُ كُلْ شِي فِي يَدْ الله. وُكَانْ اَلْخَيْرْ واَلْبَرَكَةْ واَلتِّيسِيرْ". يوضح فلاح من منطقة أولاد عمران بدكالة الذي شدد على أن الجميع كان يضع ثقته في السماء التي لن تبخل على المستضعفين والبسطاء بقطرات الخير استجابة لـ "وْلِيدَاتْ اَلْحَرَّاثَةْ" الذين يطلبون الغيث "أَشْتَا تَاتَةْ تَاتَةْ. أَوْلِيدَاتْ اَلْحَرَّاثَةْ، آمُّكْ تَجْرِي وَطِّيحْ، آبَّاكْ دَّاهْ اَلرِّيحْ، وَلَمْعَلَّمْ بُوسَكْرِي طَيِّبْ لِي خُبْزِي بَكْرِي". لكن في زمننا هذا تغيرت أحوال الناس وتبدلت معها أحوال الجو والطقس: "رَاهْ اَلْفَلْكْ يَدُورْ وَالسّْوَايَعْ بَدَّالَةْ".
التساقطات المطرية التي شهدتها بلادنا مؤخرا لم تكن عمومية في أغلب الحالات، ولم تصل قطراتها إلى عدة مناطق قروية، منها مثلا تلك المجاورة لمدينة الصويرة، ذات الأراضي الفلاحية البورية على قلتها، المتواجدة على حدود منطقتي عبدة و الشياظمة، بين (جماعة لغياث وجماعة أولاد سلمان) خصوصا أن الأرض البورية هناك تحتاج إلى تساقطات مطرية منتظمة لنجاح الموسوم الفلاحي، حيث انعكس تأخر تساقط الأمطار أيضا على جودة منتوجات زراعية متنوعة منها على الخصوص أشجار الزيتون وكمية الزيت المستخرجة من منتوج زيتونها البوري.
لقد اكتسب الفلاح تاريخيا، بهذه المناطق خبرة واسعة وقدرة هائلة على مستوى التعامل مع الجو والطقس وتقلباته بفعل (لَمْنَازَلْ) الفلاحية، من خلال انتظام عملية الحرث في علاقة بالزمان والمكان والموروث الثقافي الفلاحي. و كان الفلاح في هذه الأرض الطيبة يحترم زمن وتوقيت ما يعرف في الثقافة الفلاحية بـ (حَلَّانْ الزَرِّيعَةْ)، مع بداية شهر أكتوبر الفلاحي، ليباشر عملية الحرث التقليدي اعتمادا على قوة عضلاته و دوابه ومحراثه الخشبي التقليدي.
إن احترام توقيت عملية الحرث من طرف الفلاح البسيط يرجع بالأساس إلى عدة عوامل طبيعية منها أن عملية تساقط الأمطار كانت منتظمة رغم تقلبات أحوال الطقس في علاقة بالمنازل الفلاحية، ومن ناحية أخرى إيمان الفلاح البسيط باليمن والبركة والتيسير في كل موسوم فلاحي، اعتمادا على ما تجود به السماء من أمطار الخير.
لقد كانت الفلاحة البورية تخضع لحسابات فلكية ومواقيت مدروسة ومضبوطة ورثها الأبناء عن الآباء والأجداد، دون الرجوع إلى نشرات أحوال الطقس، وكانت (النِّيَةْ) أساس أي عمل، (فَيَّضْ اَلنِّيَّةْ وُبَاتْ مْعَ اَلْحَيَّةْ)، بحيث أن الفلاح كان مفروضا فيه أن يباشر عملية تقليب أرضه وحرثها وزرعها بوسائل تقليدية مستعينا بحدسه وثقافته البدوية الرعوية ولو انعدمت تباشير الغيوم المحملة بالأمطار في السماء. ودون إخضاع عملية الحرث لمنطق حسابات الربح والخسارة التي أضحت معادلة أساسية في عالم الفلاحة العصرية.
طبعا، لتبتهج النفوس وتنفرج القلوب والأسارير في باديتنا وقرانا ومداشرنا، لابد من سقوط المطر في موعده، (الله يَعْطِينَا الشْتَاء عْلَى قَدْ اَلنْفَعْ)، ولابد من سماع خرير المياه في جداول الأنهار والوديان وانتعاش الفرشة المائية، ولابد من تساقط الثلوج على قمم الجبال، وتمتلئ حقينة السدود في الوطن.
هذه السلسلة المائية الطبيعية هي الوحيدة القادرة على تحقيق سعادة الفلاح وإنسان البادية، وتحقق انخفاضا في سعر وأثمان الأعلاف والحبوب والخضروات وتحقيق الاكتفاء الذاتي.
فماذا تقول أحوال الطقس والجو مستقبلا؟