الخميس 25 إبريل 2024
كتاب الرأي

عبد الإلاه حبيبي: طقس المشي احتفال بالاعتدال وانتصار على السقوط والفشل

عبد الإلاه حبيبي: طقس المشي احتفال بالاعتدال وانتصار على السقوط والفشل عبد الإلاه حبيبي

من طقوس الفلسفة ومتعة الحياة المشي على الأرض... بدأت المشي لما تخليت نهائيا عن الركض، بحكم السن لن يكون ممكنا الإمعان في تدمير غضروف الركبتين، هذا وعي صحي وحذر وقائي لضمان الوقوف على الأرجل لأكبر مدة متبقية من العمر... ثم أن عادة المشي ليست وليدة اليوم، أو دعوة أملتها ظروف السن والصحة والوقاية من الأمراض، بل هي عقيدة، لم تنفصل أبدا عن عشقي للرياضة والاهتمام بالجسد عبر منحه ما يستحق من تمارين وتداريب متنوعة وأنشطة واحتفالات بينية  تجعله يعشق مرافقتي في انسجام تام، وتوفير وسيلة نقلي من حال إلى حال بكل حماقاتي وحكمتي في كل لحظة وآن، مع تخصيص حضن دافئ لاستضافتي عندما يحل الليل، أو كلما فاجأني طارئ أجده في الموعد جاهز لمساعدتي على تجاوز العقبات والظفر بالنصر عليها مهما كانت قوتها وجبروتها...

 

المشي هو شقيق السفر، أو قل هو التخلي عن السرعة في التنقل لفائدة التثاقل المنسجم مع طبيعة المكان، وقبة السماء، حينما تمشي تكتشف معنى الإنسان العاقل الذي هو وريث الإنسان المنتصب، أي الذي حرر يديه من لمس الأرض، والاعتدال نحو الأعلى، لهذا أصبح الإنسان شديد الحساسية لكل عودة إلى الانحناء، أو القيام بأعمال تخفض من شأنه وتفرض عليه أن يتخلى عن هامته وانتصابه، لهذا كان الجسد المنتصب هو بداية الحروب من أجل القطع النهائي مع كل رغبة في تغيير هذه الهندسة التي هي وليدة التطور، لكنها أيضا صنعة ربانية بها وقعت الطفرة في مسار الخلق، ليخرج الإنسان الأول إلى الوجود ويطلب الله من الملائكة السجود له، إلا واحد أصابه الحسد واستبد به التكبر لأنه رأى أمامه جسدا معتدلا جميلا قريبا من الكمال، رغم أن أصله من طين، وقرر أن يشن عليه الحرب، لتدميره من خلال استصغار شأنه بالزلات والمنكرات وأفعال الشر والرذائل التي تفرض العقاب مما يعرض حدث الانتصاب إلى الانتكاسات المتتالية وبالتالي الانتقام من هذا الكائن المدرك لكينونته والراغب في الحفاظ عليها بالقيم الفاضلة والسلوك القويم ومكافحة كل أشكال الاستعباد والحط من كرامة هذا الخلق العجيب...

 

كرة القدم هي أكبر احتفال يومي بالاعتدال يمارسه الإنسان منذ صباه، لأنه عنوان ليوم وقوع  الانتصاب، ولعل منع لمس اليدين للكرة هو مبرر لرفض ضمني لكل عودة إلى مرحلة السير على أربعة، لهذا يحب الناس فيكل مناطق العالم هذه اللعبة دون أن يدركوا خباياها  الفلسفية الكبرى.. إنها أقوى لعبة يتم فيها تكريس استخدام القدمين فقط، أي لعبة الأرجل بامتياز، مع الترخيص للرؤوس  بتوقيع الحضور لأنها رأس الاعتدال وهالته، والارتفاع دوما للأعلى لتسجيل الأهداف كانتصار على كل سقوط وفشل في منافسة الهواء...

 

أما المشي فهو السير على هذه السنة وربح رهاناتها بهدوء لعل ذلك يعيد للجسد قليلا من قدسيته وكثيرا من نبله وهو يخط عبر الأرجل ملحمة وقوف الإنسان ضد كل أشكال الاستصغار الحاط من كرامته الكونية المبررة عقلا والمؤكدة نصا وخلقا...