الجمعة 29 مارس 2024
سياسة

يجيب عنه أبو وائل: ما هي الخدمة التي قدمها خطاب العرش للشعب الجزائري؟

يجيب عنه أبو وائل: ما هي الخدمة التي قدمها خطاب العرش للشعب الجزائري؟ الملك محمد السادس والرئيس الجزائري عبد المجيد تبون

يعود أبو وائل الريفي، في بوحه الأسبوعي، بموقع "شوف تيفي"، إلى خطاب العرش الأخير، معتبرا أنه لا يمكن فهم مضمون هذا الخطاب دون استحضار التحديات واستيعاب طريقة اشتغال الملكية التي لا تتأثر بمنشور إعلامي ولا يوجهها تصريح هنا أو هناك.. معددا الدعوات الملكية للجزائر، والتي سبق للملك محمد السادس أن مد في إحداها اليد للجزائر، وذلك في خطاب بمناسبة الذكرى الثالثة والأربعين للمسيرة الخضراء سنة 2018، حيث عبر بأن “المغرب مستعد للحوار المباشر والصريح مع الجزائر الشقيقة، من أجل تجاوز الخلافات الظرفية والموضوعية، التي تعيق تطور العلاقات بين البلدين"..في ما يلي "أنفاس بريس"  تعيد نشر ما يهم خلفيات الدعوة الملكية لفتح الحدود بين المغرب والجزائر...

 

"صنع خطاب العرش الأخير الحدث، وخلق الرجة اللازمة لزحزحة حالة الجمود وسوء التفاهم، وحقق الصدمة الضرورية لدى المعنيين لمعرفة من يعرقل تسوية الخلاف وتدهور العلاقات المغربية الجزائرية منذ مدة ليست بالقصيرة، والتي تلقي بتداعياتها على المنطقة كلها، وخاصة في ظل التحولات التي تعرفها تونس وليبيا وبعض دول جنوب الصحراء. لذلك، لا يمكن فهم مضمون هذا الخطاب دون استحضار هذه التحديات واستيعاب طريقة اشتغال الملكية التي لا تتأثر بمنشور إعلامي ولا يوجهها تصريح هنا أو هناك ولكنها تنطلق دائما من مبادئ راسخة تشكل عقيدة دبلوماسية وتتدخل بالقوة اللازمة لرد البوصلة إلى وجهتها الطبيعية كلما رأت الضرورة لذلك لأنها تمتلك رؤية استراتيجية لا تزيغ عنها وتتحمل المسؤولية في تنزيل السياسة الخارجية للدولة في أبعادها الاستراتيجية. فهل كانت الدعوة الملكية للجزائر مفاجئة؟

 

من يتابع المغرب وسياسته لن يتفاجأ نهائيا، فالمغرب يضع ضمن أولوياته بناء الاتحاد المغاربي وهو ما نص عليه ضمن قانونه الأسمى. فقد نصت ديباجة الدستور المغربي على “العمل على بناء الاتحاد المغاربي كخيار استراتيجي”. ومن يواكب الخطب الملكية لن يرى اختلافا أو قطيعة لأن كل خطابات الملك متناغمة ومتكاملة تنطلق من هذا النص الدستوري لتحقيق هدف بناء الاتحاد المغاربي الذي يعتبر مصلحة استراتيجية مشتركة تتجاوز دوله وتتعداها لتشمل القارة الإفريقية والأوربية معا، وهي ليست الدعوة الأولى ولن تكون الأخيرة بغض النظر عن الرد الجزائري على هذه الدعوات. وقد سبق للملك محمد السادس أن مد اليد للجزائر في خطاب بمناسبة الذكرى الثالثة والأربعين للمسيرة الخضراء سنة 2018 حيث عبر بأن “المغرب مستعد للحوار المباشر والصريح مع الجزائر الشقيقة، من أجل تجاوز الخلافات الظرفية والموضوعية، التي تعيق تطور العلاقات بين البلدين”. هكذا يتضح إذن أن الدعوة غير مفاجئة. فما جديد هذه الدعوة إلى الجارة الجزائر؟

 

يرتبط الجديد بالسياق والمقاربة والمناسبة والشكل والمضمون، ومن لم يدقق فيها جميعا لن يفهم الحرص المغربي على تصحيح العلاقة مع الجزائر، حيث هناك من سيفهمه ضعفا من المغرب، وهناك من سيفسره براغماتية مبالغا فيها، وهناك من سيراه نحتا في الصخر بدون فائدة.

 

السياق الحالي الذي تعيشه المنطقة معقد جدا ومفتوح على كل الاحتمالات بسبب مخاطر الإرهاب والجريمة العابرة للدول وتدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية لدول المنطقة ومعها جنوب الصحراء مما يؤشر على موجة كبيرة للهجرة غير النظامية عبر حدود الدول المغاربية. فهل ستقف هذه الدول متفرجة على هذا الخطر؟ وهل ستستوعب أن لتداعيات كورونا في المنطقة نتائج اقتصادية واجتماعية لن تقتصر على الدول المغاربية فقط ولكن ستدفع ثمن تداعياتها دول جنوب الصحراء كذلك إن لم تحكم تطويق حدودها؟

 

الوضع الحالي الذي تعيشه الحدود بين الدولتين غير عادي ومناف لمبادئ القانون الدولي وتتضرر منه شعوب المنطقة كلها، ولذلك فأول خدمة لهذه الشعوب هي فتح الحدود بما يلزم طبعا من احتياطات يتفق عليها المعنيون بها، ومن شأن ذلك تخفيف الأضرار على شعبي البلدين بما يترتب عن ذلك من تيسير انتقال الأشخاص والسلع وتنشيط اقتصاد البلدين وصلة الأرحام وإحياء وشائج العلاقة التاريخية بين البلدين.

 

ولا يخفى التأثير الإيجابي لأي تحسن في العلاقة بين المغرب والجزائر على مسار التحول الذي تعرفه تونس وليبيا ودور ذلك في تسريع هذه التحولات في الاتجاه الإيجابي لخدمة المصالح المشتركة التي يجب أن تسير نحو الوحدة والتكامل والاندماج في زمن التكتلات الكبرى.

 

لكل ما سبق، وبالنظر لكل هذه السياقات، يتضح أن الخطاب الملكي كان جد منسجم مع السياق الحالي ويحكمه منطق استباقي لكل التداعيات السلبية المحتملة ويستحضر أبعادا استراتيجية ويترفع عن الحسابات الضيقة ولا تحركه دوافع أنانية ويغلب المصلحة الجماعية ويهتم بمعاناة الشعوب أكثر من اهتمامه بحسابات أنظمة المنطقة واللوبيات المستفيدة من الأزمة والتي تجني الثروات وتضمن استمرارها من هذه الأوضاع المَرَضية.

 

والعامل الثاني الذي يعكس تميز الملك محمد السادس هو اقتناعه بالمقاربة الجماعية لأن التصدي لهذه التحديات يمكن أن يتم بشكل منفرد لكل دولة على حدة ولكن المردودية ستكون متواضعة، ولذلك وجب تجاوز العوائق النفسية والحسابات الخاصة والتفكير بمنطق الصالح العام وتغليب المقاربة الجماعية لأن أمن دول المنطقة واستقرارها وتنميتها ومستقبلها متداخل لا تستغني فيه دولة عن أخرى. وهنا تبرز حكمة ملكنا وترفعه عن سفاسف الأمور وتشوفه لمعاليها. عند الملك محمد السادس لا مجال للمزايدات والحسابات الضيقة وهذه ميزة الكبار القادرين على التفكير في المستقبل بمنطق التجاوز لكل العراقيل لأن استدامة التفكير في الإكراهات لا تقود إلا إلى مزيد من الخلاف والتقوقع على الذات.

 

والعامل الثالث الذي يعطي للخطاب مدلولا كبيرا هو المناسبة. فاختيار عيد العرش برمزيته التاريخية والوجدانية عند الملك والمغاربة بكل مكوناتهم، رسالة ومؤشر على الأهمية التي يحظى بها موضوع العلاقة مع الجزائر وما تحتله من أولوية في برنامج الملك والآفاق التي يستشرفها حكمه. والرسالة معني بها حكام الجزائر وشعبها على السواء، وهي رسالة باسم المغاربة الذين طوقوا الملك محمد السادس بهذه البيعة التاريخية للدفاع عن المغرب ومصلحة المغاربة، وأعطوه دستوريا التدبير الحصري للشأن الخارجي للمغرب في شقه الاستراتيجي. ولذلك كان الانتظار إلى هذه المناسبة للتعبير عن هذه الدعوة لأن المناسبة شرط كما يقال. وقد كان الخطاب الملكي أهم تجسيد لعراقة الملكية في المغرب وإنصاتها لنبض المغاربة الذين لا يرون في الشعب الجزائري إلا "خاوة خاوة"، وقد خبروا هذا الشعب جيدا منذ زمن الاستعمار وما بعده.

 

ولم يَقل الشكل عن السياق والمقاربة والمناسبة، حيث اختار الملك محمد السادس شكلا راقيا متوددا مفتوحا منتقاةٌ عباراتُه بإحكام وبدون اشتراطات قبلية، بل ترك شكل الخطاب فرصة لحكام الجزائر للمبادرة من جهتهم بما يرونه مناسبا للتفاعل والاقتراح والتجاوب وتطوير المقترح. ولأن الكبير يبقى دائما كبيرا فقد عكس هذا الخطاب عراقة المؤسسة الملكية ورقي الملك محمد السادس الذي استطاع طي عقود من الخلاف وسوء التفاهم بعبارات جامعة مانعة لا لوم فيها على أحد. ولأن الشكل هو الأهم فقد كان حرص الملك في خطاب العرش على الإقناع فقط بجدوى فتح الحدود بين البلدين وتحسين العلاقة بينهما والاقتناع بأن تحقيق ذلك سيكون ذي فائدة إن تم بإرادة ذاتية ودون الحاجة لطرف ثالث للتدخل أو الوساطة.

 

ونأتي للمضمون الذي عبر عنه الملك في خطاب العرش تجاه الجزائر حكاما وشعبا، وميزته أنه مضمون إيجابي وبنفس بنائي وبوصلته هي المستقبل الذي استغرق النصيب الأكبر من الخطاب يعطي للجزائر ما تريده من طمأنة بما يمكن الاصطلاح عليه ضمانات ملكية أن الشر لن يأتي للجزائر من المغرب وأن المغرب لن يكون إلا مصدر خير للجزائر. تميز مضمون الرسالة الملكية للجزائر بانفتاحه وعدم الاشتراط على دولة ذات سيادة، بل حفل مضمون الخطاب بما يحفظ للبلد وضعه الاعتباري حين ترك لها اختيار الصيغ التي تراها من جهتها مناسبة لتحسين الجوار والعلاقة. لقد كان لاستحضار المستقبل وقع كبير على مضمون هذا الخطاب الذي انطلق من مسلمة أن الجغرافيا ثابت لا يتغير وما على الدول إلا التأقلم مع مقتضياتها لتحسين الجوار، وأن التاريخ المشترك والهوية المشتركة لقرون أكبر من خلافات عمرها عقود، وأن الاختلاف حول قضية لا ينبغي أن يفسد الود والاتفاق حول قضايا أخرى يمكن أن تكون منطلقا لتحسن العلاقة بين البلدين.

 

يحق للمغاربة، بكل مكوناتهم، التفاخر بملكية تمسك بزمام المبادرة وذات رؤية بعيدة ومستوعبة للآفاق الاستراتيجية للدولة المغربية وذات قدرة على تعديل البوصلة في اللحظة المناسبة دون الوقوع في أسر ترتيبات تكتيكية ضيقة. ويحق لهم التفاخر بأن هذه الملكية أمانة في يد ملك يتدخل في الوقت المناسب وبالصيغة الأنسب التي تعبر عن حضارة هذا الشعب وبما يخدم مصالحه ومصالح جيرانه. وهذا الإحساس بثقل الجوار وضرورة مراعاته لا يصدر إلا عن مؤمن بذلك مقتنع به حتى النخاع. وهنا نستحضر الملك أميرا للمؤمنين وضامنا لمصلحة رعاياه كأولوية بغض النظر عن الحسابات الصغيرة. وقد عبر عن ذلك الملك محمد السادس في خطاب 2018 حين قال “ويشهد الله أنني طالبت، منذ توليت العرش، بصدق وحسن نية، بفتح الحدود بين البلدين، وبتطبيع العلاقات المغربية الجزائرية… واعتبارا لما نكنه للجزائر، قيادة وشعبا، من مشاعر المودة والتقدير، فإننا في المغرب لن ندخر أي جهد، من أجل إرساء علاقاتنا الثنائية على أسس متينة، من الثقة والتضامن وحسن الجوار، عملا بقول جدنا صلى الله عليه وسلم: “ما زال جبريل يوصيني بالجار، حتى ظننت أنه سيورثه”. هذا هو الملك الكبير في  كل شيء.

 

لقد شكل الخطاب الملكي فرصة تغلب فيها صوت الحكمة ومنطق المصلحة المشتركة وإعلاء لحاجيات الشعوب واستحضار للمستقبل، وكان يلزم أن تقابل هذه التحية بأفضل منها أو بمثلها على الأقل. فهل تحقق شيء من هذا؟

 

للأسف، لم يكد الخطاب ينتهي حتى بدأت الأقلام المأجورة والمسخرة في الرد بعيدا عن الموضوع وفي النبش في الخلافات وتضخيم الجزئيات بنية الهدم وإقبار رسائل الخطاب مخافة أن تؤثر على معنويات الشعب الجزائري التواق لفتح الحدود بين البلدين، وهي أقلام وأصوات في الواجهة تختبئ وراءها الجهات المعنية مباشرة بالخطاب والتي أزعجتها اليد الممدودة واللغة المتوازنة والراقية التي تنهل من محبرة الدبلوماسية الأنيقة التي كان لها الوقع الكبير على كل من استمع للخطاب وتفحص فحواه ومبناه، أي شكله ومضمونه.

 

سلط جنرالات الجزائر أذرعهم الإعلامية على الخطاب الملكي للتقليل من أهمية الدعوة لفتح الحدود والتشكيك في نية الملك ودوافع المبادرة من خلال استنتاجات وهمية لن تنطلي على الشعب الجزائري الذي أتيحت له الفرصة، مرة أخرى، لمعرفة مصدر التوتر والمتسبب في استمراره. وحتى تكتمل المسرحية تراجع الجنرالات إلى الوراء وسلطوا الانفصاليين للرد بالوكالة عنهم وهو ما يعكس خوف وحرج المعني المباشر بالرد.

 

ما علاقة العلاقة بين الجزائر والمغرب وفتح الحدود بينهما بقضية الصحراء المغربية؟ وما موقع البوليساريو في أمر يخص شعبي المغرب والجزائر؟ وهل لا يمكن تصور تحسن العلاقة بين البلدين في مجالات لا خلاف فيها مع إبقاء الحوار مستمرا في القضايا الخلافية؟ وهل استمرار إغلاق الحدود بين البلدين يمكن أن يحلحل الوضع في ملف الصحراء؟

 

لحكام الجزائر أن يسلطوا أدرعهم الإعلامية والسياسية وطابورهم الخامس، ولهم أن يقرؤوا الدعوة الملكية بعقلية المؤامرة كما يشاؤون، ولكن الحقيقة أن الخطاب الملكي بمضمونه ومقاربته وشكله وتوقيته ومناسبته وسياقه كان ضربة في مقتل بالنسبة لحكام الجزائر لاعتبارات متعددة نوجزها في ثلاث.

 

لقد عزلت المبادرة الملكية النظام العسكري الجزائري عن شعبه، وبينت أن آخر همه هو مصلحة شعبه، وأنه أسير حسابات سياسوية تستحضر مصلحة جبهة البوليساريو أكثر من مصالح الجزائريين. يعي الجزائريون جيدا فوائد فتح الحدود بين البلدين اقتصاديا واجتماعيا، وخاصة في ظل هذه الظرفية التي تتزايد فيها تداعيات جائحة كورونا على الجزائر، وهم أدرى من حكامهم بحقيقة المغاربة جيرانهم وأبناء عمومتهم، ولذلك فقد حقق الخطاب الملكي هدفه ووصلت الرسالة لأحد المعنيين بها، وهو الشعب الجزائري، بشكل غير مشفر.

 

وعزل الخطاب الملكي النظام عن نخبة جزائرية صادقة في بناء الاتحاد المغاربي وكانت تنتظر فرصة مثل هذه لالتقاطها لتسوية وضعية شاذة في العالم، وهي إغلاق حدود دولتين جارتين لأسباب لم تعد قائمة. أكبر متضرر من عناد الجنرالات والمستفيدين من هذا الوضع هو النخبة الجزائرية التي يضيق عليها النظام الجزائري هامش التحرك لتحسين العلاقة بين البلدين. وهذه مناسبة أخرى للتذكير بالدور الواجب على المثقفين والأكاديميين والجمعويين والنخب من كلا البلدين لتحسيس الحكام والشعوب بكلفة إغلاق الحدود وثمن تعطيل بناء الاتحاد المغاربي وبأن الوحيد الذي يؤدي الثمن هو الشعوب.

 

وقد كشفت المبادرة الملكية حكام الجزائر أمام المنتظم الدولي، وبينت أنهم الأحرص على استمرار التوتر وسوء التفاهم وأنهم أكثر استعدادا لتأجيجه بالكذب والادعاء على المغرب لإجهاض المبادرة في أقرب وقت. وقد أصبح حكام الجزائر اليوم في موقع دفاعي وحرج لأنهم مطالبون أكثر من أي وقت مضى بتبرير أسباب إصرارهم على الاستمرار في إغلاق حدود لما يقارب ثلاثة عقود من الزمن، وعليهم وحدهم تحمل تبعات هذا التوتر بين البلدين في ملفات أخرى مثل الإرهاب والهجرة غير النظامية والجريمة. وهنا تتضح أكثر فعالية المبادرة الملكية في هذه الفترة بالذات.

 

وثالثا، فضحت المبادرة الملكية حقيقة جنرالات الجزائر الذين لا يتصورون استمرار سيطرتهم على مقدرات الشعب الجزائري بدون وجود عدو. يتوهم نظام العسكر أن وجود عدو، ولو كان وهميا، عامل أساس لتقوية وحدة مصطنعة وجبهة داخلية تتفكك يوما بعد آخر بعدما تناسلت فضائح جنرالاته حول نهب ثروات البلاد ووضع مقدراتها لخدمة حركة انفصالية مقابل تفقير الشعب وقمعه والعجز عن التجاوب مع مطالبه. وقد عرى الحراك الشعبي تسلط هذا النظام وعدم قابليته للإصلاح من الداخل، وعرت جائحة كورونا عجزه عن تأمين صحة الجزائريين. ولذلك، لم تعد تنطلي عنترياته على الشعب مثل الجولات المكوكية للعمامرة للوساطة في ملفات تتولاها جهات أخرى مثل الوساطة بين مصر وإثيوبيا في ملف سد النهضة وتكرر زياراته لتونس بحثا عن دعم لها للجزائر مستقبلا على حساب المغرب. هكذا يظن العمامرة الذي يقرأ التحولات في المنطقة بأدواته القديمة التي عفا عليها الزمن ولم تعد صالحة اليوم.

 

الواقع الذي لا يرتفع ويراه الجزائريون بالعين المجردة هو فشل نظامهم في الاستجابة لمطالب الحراك الذي ركب عليه تبون وشنقريحة وسموه مباركا حتى تمكنوا من الحكم لينقلبوا عليه ويسحبوا منه صفة المبارك ويعرضوا عن الإنصات إلى مطالبه. والواقع الذي يعايشه الجزائريون يوميا هو قمع الحريات والانتصار لإعلام الرأي الواحد. وقد اكتملت “الباهية” نهاية الأسبوع الفارط بسحب الاعتماد الممنوح لقناة “العربية” بالجزائر، ليكون مصيرها مشابها لقناة “فرانس 24” التي سحب منها الاعتماد في شهر يونيو الفارط. والتهمة الجاهزة دائما هي “التحامل المتكرر على الجزائر ومؤسساتها” و”عدم احترام قواعد أخلاقيات المهنة” و”ممارسة التضليل الإعلامي والتلاعب”، وهذه مناسبة للتأكيد على أن المغرب يتعرض لقصف ممنهج من منابر كثيرة ولكنه لم يوقف بثها ونشرها، وهي مناسبة للطوابرية الذين صمتوا عن المنع الذي تعرضت له قناة "العربية" وكأنه لا يعنيهم، أم ربما الخط التحريري للقناة لا يخدم مصالحهم ولا يتوافق مع الأجندات التي يخدمون.

 

والواقع الذي يعيشه الجزائريون هو تخبط الجنرالات وحربهم البينية حول مصالحهم، وقد عايشوا هذا الأسبوع الرئيس تبون ينهي مهام قائد الدرك الوطني اللواء نور الدين قواسمية ليعين العميد يحيى علي ولحاج مكانه. ووجه الغرابة أن قواسمية لم يمض على تعيينه سنة حيث عين في غشت 2020، وتزداد الغرابة أكثر حين نعلم أن تبون سبق أن أحال العميد ولحاج على التقاعد في يوليو 2020، ثم عينه بعد شهر في منصب قائد أركان جهاز الدرك، وهو المنصب الثاني في الدرك الوطني ليستنجد به مرة أخرى هذا الأسبوع ويمنحه شنقريحة قيادة الدرك الوطني. وكل هذا يعكس التخبط والارتباك الذي يعيشه نظام العسكر الذي صار المغرب كابوسا مرعبا لجنرالاته، مما جعل شنقريحة يستغل هذا التعيين للتعبير على أن “المؤامرات والدسائس التي تحاك ضد الجزائر والمكائد التي تدبر ضد شعبها ليست من نسج الخيال.. بل هي حقيقة واقعة أصبحت ظاهرة للعيان، وما الحملة المسعورة المركزة الموجهة ضد بلادنا وجيشها على منابر وسائل إعلام أجنبية وشبكات التواصل الاجتماعي إلا الجزء القليل البارز من هذه الحرب القذرة المعلنة ضد الجزائر”. وقد كان حريا به الوضوح مع الشعب الجزائري لتوضيح هذه المؤامرات ومن وراءها وتجنب لغة العموميات والغموض والإشارات في معرض يلزم فيه الوضوح.

 

والواقع الذي يتهرب منه حكام الجزائر هو انكشاف عجزهم وفشلهم في مواجهة جائحة كورونا وعدم قدرتهم على الاستمرار في التغطية على الأرقام الحقيقية للمرضى والوفيات وإصابات الأطفال ونقص الأوكسجين وغلاء الأدوية وعجز المنظومة الصحية. لقد كشفت مصادر طبية عن إحصاء مائة إصابة بفيروس كورونا بمصلحة طب الأطفال بمستشفى الدويرة خلال شهر يوليوز، وانتشرت الفيديوهات كالنار في الهشيم تفضح الوضعية المزرية للمستشفيات وعجزها عن استقبال المرضى وعدم توفرها على أهم المستلزمات للعناية بالمصابين وهي الأكسجين وسقوط الجزائريين فريسة لغلاء الأدوية الخاصة بعلاج كورونا مثل فيتامين س ودوليبران مثلا. وحين تعجز الدولة وتفشل وتفتح الباب للحملات الأهلية مثل حملة “ومن أحياها” لتنسيقية الجالية الجزائرية في المهجر رفقة جمعيات وطنية لشراء مكثفات الأوكسجين فاعلم أن الدولة استقالت من مهمتها الأساسية.

 

هل يصدق جزائري واحد أن الدولة لم توفر له الأكسجين؟ وهل يصدق أن الدولة لم توفر له اللقاح؟ وهل يصدق أن الدولة لم توفر له أدوية كوفيد بالكمية اللازمة والثمن المناسب؟ أين ذهبت عائدات النفط والغاز إذن؟ أين المحاسبة إذن؟ لماذا يستنجد برموز العهد السابق لتدبير الحاضر إذن؟ هل صار العداء للمغرب هو موجه مستقبل جنرالات الجزائر؟

 

هنا نفهم الخدمة التي قدمها خطاب العرش الأخير للجزائريين قبل المغرب والمغاربة. لقد وضع الملك محمد السادس جنرالات الجزائر في المرآة أمام شعبهم.

يمكن للجنرالات تسليط من يرد بالوكالة على المغرب ودعوته لفتح الحدود، ويمكنه تكليف جبهة البوليساريو للرد مكانه، ولكنهم يفضحون عجزهم وتواطؤهم مع الانفصاليين. فحكام الجزائر هم من احتضن جبهة البوليساريو ومولها وسلحها وحماها وقدم لها قطعة من أرض الجزائر صارت اليوم بؤرة للوباء يتضرر منها الشعب الجزائري قبل غيره، وقد تابعنا نهاية الأسبوع السابق تشييع جثمان عبد الله لحبيب البلال متأثرا بإصابته بفيروس كورونا. وهذا هو الخليفة المفترض لبن بطوش والذي كان يشغل منصب وزير الأمن والتوثيق في جمهورية الوهم.

 

لم يفتح المغرب جروح الماضي ومسؤولية النظام الجزائري في احتضان الجبهة التي كانت تشن الهجمات على المغرب وأراضيه وجنوده من الأراضي الجزائرية، وقد استشهد إثر ذلك غدرا جنود مغاربة ندبوا أنفسهم لحماية المغرب والمغاربة. وهذه مناسبة للترحم عليهم جميعا. غلب المغرب مقاربة المستقبل خدمة للأجيال القادمة وانتصارا لأحفاد من ضحوا بأنفسهم من أجل مستقبل أفضل لأحفادهم. ولذلك فالمغرب يعتبر الردود بالوكالة بدون قيمة لأنها صادرة عن غير ذي صفة، والانتعاش في اجترار خلافات الماضي وتضخيمها لن يطول مفعوله، وينتظر ردا رسميا جزائريا متناسبا ومتوازي الصفة والشكل من الجارة الجزائر. هذا وحده الذي سيعتمده المغرب والصمت رد بطبيعة الحال، ولكنه رد موجه لشعب الجزائر والمنتظم الدولي قبل المغرب".

 

(المصدر: "شوف تيفي")