الجمعة 29 مارس 2024
كتاب الرأي

عبد الواحد الفاسي: خطاب الحكمة والشهامة لبناء مغرب الشعوب

عبد الواحد الفاسي: خطاب الحكمة والشهامة لبناء مغرب الشعوب عبد الواحد الفاسي
" الوطنية التي تصنع الرجال العظماء هي التي تصنع كذلك أكبر المعجزات " ( لور كونان )
جاء خطاب الذكرى الثانية والعشرين لعيد العرش متميزا وحاملا لدلالات وإشارات تعكس درجات عالية من العبقرية والذكاء والثقة في النفس وفي الوطن والمواطنين ، و بمعرفة عميقة بأحوال ونفسية الجيران الذين يصرون على أن يظلوا أعداءً .جاء أيضا مفعما بمشاعر الإيمان الراسخ بأهمية اتحاد المغرب الكبير. لقد كان خطابا يعكس بشكل جلي وصادق قيم النبل والمحبة والسلام.
وعندما أتكلم هنا عن العبقرية ، فإنني أتذكر عبقرية الراحل الملك الحسن الثاني بخصوص المسيرة الخضراء السلمية التي استرجعنا بواسطتها أقاليمنا الجنوبية.
فبعد تقديمه لِما شهده المغرب خلال هذه السنة من تحديات وإكراهات - مرتبطة في مجملها بالجائحة الوبائية التي شهدها العالم - وما قام ويقوم به من إجراءات وتدابير لمواجهة انعكاساتها الصحية والاقتصادية والاجتماعية والتخفيف منها - بفضل تضافر الجهود وتلاحم الإرادات - توجه جلالة الملك بنداء واضح وصريح إلى الجارة الجزائر يدعوها فيه إلى تغليب منطق الحكمة والواقعية والمصير المشترك للشعبين المغاربيين من أجل تجاوز مرحلة اتسمت بالتشنج والتوجس والعداء المجاني والإغلاق غير المبرر للحدود وما له من انعكاسات سلبية على مواطني البلدين وخصوصا سكان المناطق المتاخمة لهذه الحدود. يقول جلالة الملك بهذا الصدد :
" بموازاة مع مبادراته التنموية، على المستوى الداخلي، فإن المغرب يحرص، بنفس العزم، على مواصلة جهوده الصادقه، من أجل توطيد الأمن والاستقرار، في محيطه الإفريقي والأورو-متوسطي، وخاصة في جواره المغاربي.
وإيمانا بهذا التوجه، فإننا نجدد الدعوة الصادقة لأشقائنا في الجزائر، للعمل سويا، دون شروط، من أجل بناء علاقات ثنائية، أساسها الثقة والحوار وحسن الجوار. ذلك، لأن الوضع الحالي لهذه العلاقات لا يرضينا، وليس في مصلحة شعبينا، و غير مقبول من طرف العديد من الدول.
فقناعتي أن الحدود المفتوحة، هي الوضع الطبيعي بين بلدين جارين، و شعبين شقيقين.لأن إغلاق الحدود يتنافى مع حق طبيعي، ومبدأ قانوني أصیل، تكرسه المواثيق الدولية، بما في ذلك معاهدة مراكش التأسيسية لاتحاد المغرب العربي، التي تنص على حرية تنقل الأشخاص، وانتقال الخدمات والسلع ورؤوس الأموال بين دوله ".
ويضيف جلالته مذكرا بمبادراته المتكررة من أجل تكسير هذا الحاجز الذي أصبح لذى الحكام الجزائريين عاملا نفسيا أكثر منه عنصرا ماديا متجاوزا ، قائلا :
" وقد عبرت عن ذلك صراحة، منذ 2008، و أكدت عليه عدة مرات، في مختلف المناسبات.خاصة أنه لا فخامة الرئيس الجزائري الحالي، ولا حتى الرئيس السابق، ولا أنا، مسؤولين على قرار الإغلاق. ولكننا مسؤولون سياسيا وأخلاقيا، على استمراره؛ أمام الله، وأمام التاريخ، وأمام مواطنينا. وليس هناك أي منطق معقول، يمكن أن يفسر الوضع الحالي، لا سيما أن الأسباب التي كانت وراء إغلاق الحدود، أصبحت متجاوزة، ولم يعد لها اليوم، أي مبرر مقبول.
نحن لا نريد أن نعاتب أحدا، ولا نعطي الدروس لأحد؛ وإنما نحن إخوة فَّرق بيننا جسم دخیل، لا مكان له بيننا " .
وحرصا على درء كل ما يتوهمه الحكام الجزائريون من مخاطر أو أضرار يتوجه إليهم مطَمْئناً وقاطعا للشك باليقين فيقول :
" وأنا أؤكد هنا لأشقائنا في الجزائر، بأن الشر والمشاكل لن تأتيكم أبدا من المغرب، كما لن یأتیکم منه أي خطر أو تهديد؛ لأن ما يمسكم يمسنا، وما يصيبكم يضرنا. لذلك، نعتبر أن أمن الجزائر واستقرارها، وطمأنينة شعبها، من أمن المغرب واستقراره.
والعكس صحيح، فما يمس المغرب سيؤثر أيضا على الجزائر؛ لأنهما كالجسد الواحد".
ويختم دعوته هاته بتغليب قيم الحكمة والمحبة والأخوة التاريخية المشتركة بين الشعبين الجارين قائلا :
" لذا، ندعو إلى تغليب منطق الحكمة، والمصالح العليا، من أجل تجاوز هذا الوضع المؤسف، الذي يضيع طاقات بلدينا، ويتنافى مع روابط المحبة والإخاء بين شعبينا. فالمغرب والجزائر أكثر من دولتين جارتين، إنهما توأمان متكاملان.
لذا، أدعو فخامة الرئيس الجزائري، للعمل سويا، في أقرب وقت يراه مناسبا، على تطوير العلاقات الأخوية، التي بناها شعبانا، عبر سنوات من الكفاح المشترك ".
ولا أخفيكم سرا أنني مباشرة بعد سماعي لهذا الخطاب اندهشت لما جاء فيه . وبعد ذهاب هذا الاندهاش خطر ببالي أمر وقع قبيل واقعة وادي المخازن. ويتعلق بالرسالة-الخطاب التي وجهها الملك عبد المالك السعدي إلى ملك البرتغال سباستيان .
خطر ببالي هذا الأمر لسببين اثنين : أولهما تاريخ خطاب العرش الذي يتزامن مع حلول ذكرى معركة وادي المخازن المجيدة التي تُوِّجَت بنصر مبين للجيش المغربي ، وثانيهما مضموني الخطابين اللذين يشتملان على عدد من النقط المتشابهة. وفيما يلي مقتطف من رسالة عبد المالك إلى سباستيان :
" إن ما تعزم عليه من محاربتي في عقر داري ظلم وتعدٍّ غير معقول، وأنا لا أضمر لك شراً ، ولم أقم بشيء ضدَّك . فكيف تبيح لنفسك أن تزيل لي ما هو حقي وتعطيه لشخص آخر مقابل وعود خلابة لا يستطيع أن يفي لك بها ما دمت حيا . إنك تأتي لتطردني من مملكتي ، وأنك بما تملك، وبما يوجد في عالمك لن تقدر على ذلك . ولا تظن أن الجبن هو الذي يُملي علي ما أقوله لك ؛ فإن فَعلْت فإنك تعرض نفسك للهلاك ، وإنني مستعد للتفاهم معك رأسا لرأس في المحل الذي تريده ، وأني أفعل كل هذا سعيا في عدم هلاكك المحقَّق عندي ، ولا يملي علي هذه العواطف إلا حبي للعدل . "
( الرسالة توجد ضمن مقال لمحمد الفاسي تحت عنوان " وادي المخازن " منشور بمجلة البحث العلمي، العدد 9 ، السنة الثالثة )
إن ما يتعرض له المغرب وما يعانيه من طرف حكام الجزائر- وهو الذي لم يدخر جهدا ولا دعما أو سندا لشعبها من أجل التحرير من ربقة الاستعمار الفرنسي - أمر يصعب استيعابه وتصنيفه. إن المواقف العدائية التي يقفها حكام الجزائر بصدد استرجاع المغرب لأقاليمه الجنوبية وإصرارهم بكل الوسائل على استمرار التوتر- لا يمكن تفسيره إلا بمنطق المريض بالسكيزوفرينيا وبأوهام عقدة التفوق والهيمنة.
إن السلوك النزق للحكام الجزائريين - الذين تعامل معهم المغرب بكامل النبل الأخلاقي وحسن الجوار والتسامح فيما يتعلق بمسألة المناطق الشرقية بكل من تندوف والتوات والقنادسة التي اقتطعتها فرنسا إبان استعمارها للمغرب لتضمها إلى مستعمرتها الجزائرية والتي ووجِهَت مطالبُ المغرب باستعادتها بمواقف معادية من طرف الجزائريين - لا يمكن أن يبعث على الثقة والاطمئنان الذي يفرضه حسن الجوار والدين والتاريخ المشترك. وقد صدق زعيم التحرير علال الفاسي ، رحمة الله عليه، حين قال بهذا الصدد :
" والمصيبة أن إخوانا لنا يأبون إلا أن يضيعوا علينا سبيل الكفاح لتحرير مناطقنا واستكمال استقلالنا ووحدتنا.
وقد أخذ يصيبنا في المغرب العربي ما أصاب العرب في المشرق ، والتعرض لدسائس الأعداء، وتمادي الأصدقاء.
فهل لي أن أدعو اليوم المواطنين إلى الالتفاف حول كلمة سواء ، لإنقاذ الأجزاء المغتصبة من أراضينا بالحسنى ، وبنفس الروح التي تشتمل عليها رسالة عبد الماك إلى سباستيان ، أي في إطار السلام وحسن الجوار، أو بالدخول في معارك لا محيد عنها للقيام بواجبنا .
إذا لم تكن إلا الأسنة مركبا
فلا يسع المضطر إلا ركوبها
إن انسجام الملك والشعب في هذا الموضوع وغيره من الموضوعات المهمة أمر ضروري ، وإن الذين يتحالفون مع المحتلين ضدنا ليسوا منا ولا من إخواننا ".
( من خطاب الزعيم علال الفاسي في ذكرى معركة وادي المخازن بتاريخ 4 غشت 1973) .