ظلّ مفهوم الخلافة الإسلامية واحدًا من أكثر المفاهيم التباسًا في الوعي الإسلامي المعاصر، ليس بسبب غموضه في ذاته، بل نتيجة ما تراكم حوله من توظيف أيديولوجي، وشحن عاطفي، وتقديس سياسي، جعل السؤال عنه يبدو – عند بعض التيارات – وكأنه مساس بالدين نفسه. غير أن النظر المقاصدي والحضاري الهادئ يفرض إعادة طرح هذا السؤال خارج منطق الشعارات، وداخل منطق العلم والتاريخ والاجتهاد: هل الخلافة، كما عرفها التاريخ الإسلامي، فرض شرعي تعبّدي ملزم لكل زمان ومكان، أم أنها اجتهاد بشري نشأ في سياق تاريخي معيّن، وخضع لشروطه وتحولاته؟
منذ اللحظة الأولى بعد وفاة الرسول ﷺ، نجد أن الوحي- أي القرآن الكريم - لم يترك نصًا صريحًا قطعيّ الدلالة والثبوت يحدد شكل نظام الحكم، ولا اسمه، ولا آليات انتقال السلطة، ولا طبيعة المؤسسة السياسية التي تخلف النبي في إدارة الشأن العام. هذا الغياب النصي ليس نقصًا في التشريع، بل دلالة عميقة على أن الإسلام لم يربط الدين بشكل سياسي جامد، وإنما ربطه بقيم كبرى، كالعدل، والشورى، وحفظ الحقوق، وصيانة الكرامة الإنسانية، ومنع الاستبداد.. أما الأشكال التنظيمية فهي متروكة للاجتهاد البشري بحسب الزمان والمكان.
فالخلافة، كما تشكّلت تاريخيًا، لم تبدأ كنظرية مكتملة الأركان، بل كحل عملي لأزمة طارئة: من يقود الجماعة بعد النبي؟ وكان اجتماع سقيفة بني ساعدة – على ما فيه من اجتهادات واختلافات – دليلًا واضحًا على أن الصحابة أنفسهم تعاملوا مع مسألة الحكم باعتبارها شأنًا بشريًا اجتهاديًا، لا وحيًا منزّلًا. ولو كانت الخلافة فرضًا شرعيًا محدد المعالم، لما اختلفوا في أصلها ولا في آليتها.
بل إن تتبع مسار الخلافة تاريخيًا يكشف بوضوح أنها لم تكن نموذجًا واحدًا ثابتًا، بل تجارب سياسية متعدّدة: من خلافة راشدة قائمة على الشورى والرضا العام، إلى ملك عضوض، ثم سلطنة، ثم خلافة رمزية فاقدة للسلطة الفعلية.. فكيف يمكن الادعاء بقداسة نظام تغيّر شكله ومضمونه، وتناقضت ممارساته، وتباينت شرعيته عبر العصور؟
الفقه السياسي الإسلامي الكلاسيكي نفسه لم يتعامل مع الخلافة بوصفها ركنًا من أركان الدين، بل عدّها من مسائل المصالح والسياسة الشرعية. كبار الأئمة كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد لم يجعلوا الخلافة أصلًا عقديًا، ولم يكفّروا أمةً غاب عنها هذا النموذج، ولم يقولوا بتعطيل الدين بزواله. بل إن كثيرًا من تنظيرات “وجوب الخلافة” جاءت لاحقًا في سياقات خوف على وحدة الأمة، أو محاولة للحد من الفوضى، لا باعتبارها حكمًا تعبديًا محضًا.
ومن هنا تتضح مغالطة الجماعات الإسلامية المعاصرة، حين تتعامل مع الخلافة باعتبارها فرضًا شرعيًا مغيّبًا، وتحمّل المجتمعات والدول وزر عدم إقامتها، بل وتسوّغ – باسمها – الصدام مع الدولة الوطنية، وتكفير الحكام والأنظمة، وشرعنة العنف، هذا المنطق لا يستند إلى نص قطعي، ولا إلى إجماع حقيقي، وإنما إلى قراءة انتقائية للتاريخ، تُقدّس الشكل، وتُهمل المقصد.
إن المقاصد الكبرى للشريعة الإسلامية لا تتوقف على وجود مسمّى “الخلافة”، بل على تحقق العدل، وصيانة الحقوق، وحفظ الدين والنفس والعقل والمال والكرامة. فالدولة التي تحقق هذه المقاصد، أيًّا كان اسمها أو نظامها، أقرب إلى روح الإسلام من كيان يرفع شعار الخلافة ويهدر كرامة الإنسان، كما شهد العالم في تجارب مأساوية استثمرت الحلم الديني لإنتاج الخراب والدمار.
كما أن الدولة الوطنية الحديثة ليست نقيضًا للإسلام كما يصوّرها الخطاب الأيديولوجي، بل هي ثمرة تطور إنساني تاريخي في تنظيم السلطة، وضبط الحقوق، ومنع الاستبداد، وتحديد المسؤوليات. الإسلام – بعقله الحضاري – لا يصطدم مع هذه الدولة ما دامت تحترم القيم الأخلاقية والعدالة والمواطنة. بل إن الإصرار على استنساخ نموذج سياسي يعود لقرون مضت، في عالم تغيّرت فيه بنية السلطة والعلاقات الدولية، ليس وفاءً للدين، بل جمودًا فكريًا يسيء إليه.
واللافت أن الخطاب الذي يروّج لفريضة الخلافة اليوم، هو ذاته الخطاب الذي يعجز عن تقديم تصور واقعي عملي لكيفية إقامتها: أي حدودها؟ أي شعوبها؟ أي لغاتها؟ أي نظام اقتصادي؟ أي علاقة بالأمم؟ أي ضمانات للحقوق والحريات؟ أي آلية للمحاسبة؟ كل ذلك يُترك غامضًا، بينما يُرفع الشعار باعتباره خلاصًا سحريًا، في تكرار لمنطق اليوتوبيا السياسية.
والأخطر من ذلك أن هذا الخطاب يحوّل الدين من رسالة أخلاقية إنسانية إلى مشروع صراع على السلطة، ويختزل تاريخ الإسلام في نموذج سياسي واحد، متجاهلًا أن عظمة الحضارة الإسلامية لم تكن في شكل الحكم بقدر ما كانت في إنتاج العلم، وبناء العمران، وترسيخ قيم التعايش، والانفتاح على الآخر.
إن السؤال الحقيقي ليس: هل نحتاج إلى الخلافة؟ بل: هل نحتاج إلى العدل؟ إلى الكرامة؟ إلى حكم راشد يحترم الإنسان؟ وهذه القيم لا يحتكرها اسم، ولا يضمنها شعار، بل يصونها وعي حضاري واجتهاد متجدد، يفهم النص في سياقه، والتاريخ في شروطه، والواقع في تعقيده.
وعليه، فإن الخلافة – في ميزان الفكر المقاصدي – ليست فرضًا شرعيًا تعبديًا، وإنما اجتهاد بشري تاريخي وُلد في سياق معين، ونجح حينًا وأخفق كثيرًا، ويمكن الاستفادة من تجربته دون تقديسها، كما يمكن تجاوزه دون خيانة للدين. أما تحويله إلى “عقيدة سياسية” تُقاس بها إيمان المجتمعات، فذلك انحراف عن روح الإسلام، وإساءة إلى مقاصده، وعبء حضاري لا طاقة للأمة به.
لقد آن الأوان لتحرير الوعي الإسلامي من أسر الشعارات، وإعادة مركزية الإنسان والقيم، بدل اللهاث خلف نموذج سياسي مات بسياقه، وبقي حيًّا فقط في خيال جماعات لم تستوعب بعد أن الإسلام أكبر من الدولة، وأعمق من الخلافة، وأبقى من كل مشروع آيديولوجي سلطوي .
منذ اللحظة الأولى بعد وفاة الرسول ﷺ، نجد أن الوحي- أي القرآن الكريم - لم يترك نصًا صريحًا قطعيّ الدلالة والثبوت يحدد شكل نظام الحكم، ولا اسمه، ولا آليات انتقال السلطة، ولا طبيعة المؤسسة السياسية التي تخلف النبي في إدارة الشأن العام. هذا الغياب النصي ليس نقصًا في التشريع، بل دلالة عميقة على أن الإسلام لم يربط الدين بشكل سياسي جامد، وإنما ربطه بقيم كبرى، كالعدل، والشورى، وحفظ الحقوق، وصيانة الكرامة الإنسانية، ومنع الاستبداد.. أما الأشكال التنظيمية فهي متروكة للاجتهاد البشري بحسب الزمان والمكان.
فالخلافة، كما تشكّلت تاريخيًا، لم تبدأ كنظرية مكتملة الأركان، بل كحل عملي لأزمة طارئة: من يقود الجماعة بعد النبي؟ وكان اجتماع سقيفة بني ساعدة – على ما فيه من اجتهادات واختلافات – دليلًا واضحًا على أن الصحابة أنفسهم تعاملوا مع مسألة الحكم باعتبارها شأنًا بشريًا اجتهاديًا، لا وحيًا منزّلًا. ولو كانت الخلافة فرضًا شرعيًا محدد المعالم، لما اختلفوا في أصلها ولا في آليتها.
بل إن تتبع مسار الخلافة تاريخيًا يكشف بوضوح أنها لم تكن نموذجًا واحدًا ثابتًا، بل تجارب سياسية متعدّدة: من خلافة راشدة قائمة على الشورى والرضا العام، إلى ملك عضوض، ثم سلطنة، ثم خلافة رمزية فاقدة للسلطة الفعلية.. فكيف يمكن الادعاء بقداسة نظام تغيّر شكله ومضمونه، وتناقضت ممارساته، وتباينت شرعيته عبر العصور؟
الفقه السياسي الإسلامي الكلاسيكي نفسه لم يتعامل مع الخلافة بوصفها ركنًا من أركان الدين، بل عدّها من مسائل المصالح والسياسة الشرعية. كبار الأئمة كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد لم يجعلوا الخلافة أصلًا عقديًا، ولم يكفّروا أمةً غاب عنها هذا النموذج، ولم يقولوا بتعطيل الدين بزواله. بل إن كثيرًا من تنظيرات “وجوب الخلافة” جاءت لاحقًا في سياقات خوف على وحدة الأمة، أو محاولة للحد من الفوضى، لا باعتبارها حكمًا تعبديًا محضًا.
ومن هنا تتضح مغالطة الجماعات الإسلامية المعاصرة، حين تتعامل مع الخلافة باعتبارها فرضًا شرعيًا مغيّبًا، وتحمّل المجتمعات والدول وزر عدم إقامتها، بل وتسوّغ – باسمها – الصدام مع الدولة الوطنية، وتكفير الحكام والأنظمة، وشرعنة العنف، هذا المنطق لا يستند إلى نص قطعي، ولا إلى إجماع حقيقي، وإنما إلى قراءة انتقائية للتاريخ، تُقدّس الشكل، وتُهمل المقصد.
إن المقاصد الكبرى للشريعة الإسلامية لا تتوقف على وجود مسمّى “الخلافة”، بل على تحقق العدل، وصيانة الحقوق، وحفظ الدين والنفس والعقل والمال والكرامة. فالدولة التي تحقق هذه المقاصد، أيًّا كان اسمها أو نظامها، أقرب إلى روح الإسلام من كيان يرفع شعار الخلافة ويهدر كرامة الإنسان، كما شهد العالم في تجارب مأساوية استثمرت الحلم الديني لإنتاج الخراب والدمار.
كما أن الدولة الوطنية الحديثة ليست نقيضًا للإسلام كما يصوّرها الخطاب الأيديولوجي، بل هي ثمرة تطور إنساني تاريخي في تنظيم السلطة، وضبط الحقوق، ومنع الاستبداد، وتحديد المسؤوليات. الإسلام – بعقله الحضاري – لا يصطدم مع هذه الدولة ما دامت تحترم القيم الأخلاقية والعدالة والمواطنة. بل إن الإصرار على استنساخ نموذج سياسي يعود لقرون مضت، في عالم تغيّرت فيه بنية السلطة والعلاقات الدولية، ليس وفاءً للدين، بل جمودًا فكريًا يسيء إليه.
واللافت أن الخطاب الذي يروّج لفريضة الخلافة اليوم، هو ذاته الخطاب الذي يعجز عن تقديم تصور واقعي عملي لكيفية إقامتها: أي حدودها؟ أي شعوبها؟ أي لغاتها؟ أي نظام اقتصادي؟ أي علاقة بالأمم؟ أي ضمانات للحقوق والحريات؟ أي آلية للمحاسبة؟ كل ذلك يُترك غامضًا، بينما يُرفع الشعار باعتباره خلاصًا سحريًا، في تكرار لمنطق اليوتوبيا السياسية.
والأخطر من ذلك أن هذا الخطاب يحوّل الدين من رسالة أخلاقية إنسانية إلى مشروع صراع على السلطة، ويختزل تاريخ الإسلام في نموذج سياسي واحد، متجاهلًا أن عظمة الحضارة الإسلامية لم تكن في شكل الحكم بقدر ما كانت في إنتاج العلم، وبناء العمران، وترسيخ قيم التعايش، والانفتاح على الآخر.
إن السؤال الحقيقي ليس: هل نحتاج إلى الخلافة؟ بل: هل نحتاج إلى العدل؟ إلى الكرامة؟ إلى حكم راشد يحترم الإنسان؟ وهذه القيم لا يحتكرها اسم، ولا يضمنها شعار، بل يصونها وعي حضاري واجتهاد متجدد، يفهم النص في سياقه، والتاريخ في شروطه، والواقع في تعقيده.
وعليه، فإن الخلافة – في ميزان الفكر المقاصدي – ليست فرضًا شرعيًا تعبديًا، وإنما اجتهاد بشري تاريخي وُلد في سياق معين، ونجح حينًا وأخفق كثيرًا، ويمكن الاستفادة من تجربته دون تقديسها، كما يمكن تجاوزه دون خيانة للدين. أما تحويله إلى “عقيدة سياسية” تُقاس بها إيمان المجتمعات، فذلك انحراف عن روح الإسلام، وإساءة إلى مقاصده، وعبء حضاري لا طاقة للأمة به.
لقد آن الأوان لتحرير الوعي الإسلامي من أسر الشعارات، وإعادة مركزية الإنسان والقيم، بدل اللهاث خلف نموذج سياسي مات بسياقه، وبقي حيًّا فقط في خيال جماعات لم تستوعب بعد أن الإسلام أكبر من الدولة، وأعمق من الخلافة، وأبقى من كل مشروع آيديولوجي سلطوي .
الصادق العثماني- أمين عام رابطة علماء المسلمين بأمريكا اللاتينية

