السبت 18 مايو 2024
كتاب الرأي

محمد منير: التطرف الديني والمذهبي.. من المسؤول عنه ؟

 
 
محمد منير: التطرف الديني والمذهبي.. من المسؤول عنه ؟

عندما يقف المؤمن في محرابه بين يدي ربه فإنه يقيم دينه وحياته بتكبيرة الإحرام في انسجام تام مع روحه وجسده، وفي سياق كونيته مع العالمين "كل في فلك يسبحون" الأنبياء33، هذا الموقع الذي أحرزه المتعبد بالصلوات والعلوم داخل المسجد لم يكن إلا ترجمة لما يعتلج في صدره من التصديق والإيمان، فكان هديا من الله عز وجل ووسيلة تربوية أساسية داخل منظومة متكاملة لإعداد الرجال والنساء إعدادا لا خلل فيه ولا اعوجاج، ومن هذا المنطلق كان المسجد أول المشاريع التنموية التي قام بها النبي محمد صلى الله عليه وسلم عندما وطأة قدماه مدينة يثرب، على اعتبار أن المتخرجين منه هم أساس العمران الإستخلافي "إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً" البقرة30، وعلى أساس المعرفة والعلم "وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا" البقرة30، ولكي تتم العملية التنموية/التربوية بنجاح كان لابد من موقع/بناية تجسد لدى المتلقي صورة نموذجية مقدسة تولد لديه نزعة الإقبال الروحي لتتوالى بعدها فتوحات لا متناهية.

إن دور المسجد في تصدر الأمة الإسلامية عبر تاريخها حافل بما لا يمكن نكرانه أو إغفاله لما له من سطوة على المجتمع فلم يكن بعيدا أو غريبا عن همومها ومشاكلها، إن في العبادات أو في المعاملات المدنية والعسكرية بل وحتى في أبسط الأمور شأنا، ولهذا نضجت للمجتمع المسلم لحمة متينة نسجت بحلق الذكر والمحاور العلمية الأصيلة بين يدي علماء أكفاء مشهود لهم بالعدالة، فلم يكن هناك تفرق ولا خلاف اللهم ما كان من اختلاف أوجه النظر والتأويل والاستنباط من الكتاب والسنة، فنتج عن ذلك كمٌّ غزير من العلوم والآراء التي أثرت العقول والأفهام، ولم تزغ بهم عن دائرة النقد والمقارعة بالحجج والدلائل بلغة الأدب واللياقة والمروءة وحفظ المراتب.

 فإذا كان المسجد كما ذكرنا هو الحلقة الأقوى والمحورية في نهضة الأمة وانبعاثها، وإذا كان المسجد لازال موجودا في وقتنا الحاضر وبأعداد كبيرة، فما الذي جعل منه الحلقة الأضعف؟ وما الذي قزم دوره إلى مصلى وحسب، يفتح عند الأذان ويقفل عند السلام؟ ولماذا يتحمل المسجد تبعات ما جناه الآخرون؟

إلى عهد قريب جدا وفي سنوات السبعينات والثمانينات كانت المساجد تعج بطلاب العلم ولا أقول بالمصلين وإلا فهي الآن كذلك حيث يحار الطالب أين يقصد، فمثلا مدينة الدار البيضاء وحدها كانت جل مساجدها تقوم بدور فعال في التربية عموما والتعليم خصوصا عبر مجالس/كراسي في علوم القرآن والحديث في الفقه والسيرة في اللغة والآداب في المتون الشرعية واللغوية في تحفيظ كتاب الله وترتيله في محو الأمية، عمل عفوي حر تلقاه جيل بأكمله وتربى فيه على يد علماء مخلصين شُهٍد لهم بالكفاءة العلمية كلٌّ في فنه، فلم يخرج عن التقليد إلا النزر اليسير من الناس "وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا" البقرة148، وعندما نتحدث هنا عن طالب العلم إنما ذلك الشاب والرجل والكهل والشيخ بل وحتى النساء والعجائز، من كل الأطياف العمرية والمهنية والحرفية تلامذة المدارس وطلبة الجامعات الكل ينهل من معين واحد لا تكاد تجد مكانك في المسجد، كل الأيام بدون استثناء بين العشاءين ويضاف بعد صلاة العصر يومي السبت والأحد، حركة دؤوبة مقبلة غير مدبرة مثمرة منسجمة، في تزايد تروح وتغدو في وضح النهار تلتقي في مساجد أبوابها مفتوحة صوامعها مرفوعة وجوهها مكشوفة فرقة واحدة مذهب واحد ووطن واحد، الكل يعرف الكل ويحب الكل ويتأدب مع الكل، سيمفونية رائعة لا تملك إلا أن تصفق لها تشجيعا وتنويها.

لكن للأسف دائما هناك من يتربص بالأمة من أبناء جلدتها وعمومتها ولا يحب لها الخير، ويحيك لها التهم والمزاعم الباطلة ليجتث بذرتها الطيبة من أصلها خوفا على مصالحه ومناصبه المسكين لا يدري أن تدميرَه في تدبيره، فأقصى علماء النور عن المنابر وأقفلت المساجد في وجه الطلاب والمريدين وانبرى شيوخ الظلام ورويبضة الكلام، وفُتِح لهم باب الجهل على مصراعيه ليحدثوا الناس بكل عجيب ويفتونهم بكل غريب، هُجِّرُوا من المسجد فلاذ البعض منهم بالدكاكين والأعشاش والكهوف ليجدوا من يتلقفهم ويرعاهم لكن ليس "عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ" وإنما "عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ" التوبة109، الإنسان اجتماعي بطبعه ولا يقدر على العيش منعزلا وخصوصا العربي وأخَصُّ منه الإسلامي، فلما سُلب منه حقه في وجهة من اختياره بحث له عن سبيل آخر وهذا الأخير غير مضمون وغالب الظن قد يسقطه في غياهب حالكة، لأن اختياره الأول كان عن فطرة وقناعة ومحبة، أما المسار الآخر فدُفِع إليه دفعا فولجه إما من باب ردة الفعل أو العناد أو الحاجة في التلقي والتعلم بعفوية وعاطفة ساذجة استغلها من يحسن توظيفها لأغراضه، فإن السمكة إذا أُخرجت من البحر وأُلقيت في مستنقع آسن فلا محالة ستستنشق ماءه العفن، فنتج عن المنع والحظر والقمع كل صنوف التطرف تطرفتم فانحرفوا وفرقتم فتسيبوا وقهرتم فأحرقوا، سلفية جهادية وتكفيريون وجيش عرمرم من الدواعش "هَٰذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا" يوسف 65.

خطأ منهجي أرعن مقاربات أمنية حائرة غيابٌ لقراءات اجتماعية وتاريخية وإقليمية انعدام لدراسات مستقبلية وتجارب، خوف وتوجس من كل شيء يتحرك تجمعات لقاءات نضج مجتمعي، فمتى نتحرر من العقلية المتحجرة النمطية المعادية للتغيير؟ متى نوظف قدراتنا المعرفية والعلمية لصالح الوطن؟ من لنا للنهوض بمستقبل البلاد والعباد سوى أبناء الوطن؟ لا تكفي الشهادات العليا ولا المكتسبات المعرفية إن لم تخالطها الإستقامة والأمانة "قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ" يوسف 55.