لابد وأن كل بيضاوي أعاد شريط ذكريات ماضيه، إلا ووجد به حدثا يتصل من قريب أو بعيد بالدائرة الأمنية المعروفة بـ "كوميسارية المعاريف" في شارع إبراهيم الروداني. لا لشيء، سوى للصيت الذي ظلت تحظى به تلك البناية، ولعقود من الزمن، بين المواطنين كمقر مرعب لكل من اقتيد إليه. حتى أن السؤال الذي كان يطرح ابتداء بين الأهالي عند سماع توقيف قريب لهم هو "ياكما داوه لكوميسارية المعاريف..؟". على أساس أن الزج به هناك يحيل على ارتكابه جرما جسيما، إن حقيقة أو تلفيقا، وأن الجزاء سيكون قاسيا.
ولأنها أسست منذ سنة 1939، شهدت مختلف التحولات التاريخية والسياسية التي مرت في المغرب، سواء في فترة الاستعمار أو الاستقلال أو ما اشتهر بسنوات الرصاص، إذ كانت عبارة عن ملحقة لمعتقل درب مولاي الشريف، ومن المتابَعين السابقين من لقبها بـ "تازمامارت الصغيرة" لشدة هول ما مورس داخلها من تعذيب جسدي ونفسي.
الآن، وبعد كل هذا السجل المأساوي الذي تحتفظ به الكوميسارية، وما شكلته من رموز سوداوية لعهد ولى بلا رجعة، صدر في حقها حكم بالإعدام. الأمر الذي قد يراه البعض انتقاما مشروعا لضحاياها الأحياء منهم والأموات، ومقابلا معنويا لكل من تجرع بين جدرانها مرارة الانتهاك والإهانة. كما أنه جواب غير مباشر على طي صفحة لا يود أحد استنساخ حروف وقائعها. لكن ما تبين هو الاعتراض الشديد الذي أبدته الكثير من فعاليات المجتمع المدني، وما كشفته من رفض مطلق لقرار الهدم، كل حسب مبرراتها الخاصة، وطبيعة دفوعاتها الإقناعية.
وفي هذا السياق، يرى مصطفى المنوزي، رئيس المنتدى المغربي من أجل الحقيقة والإنصاف، بأن هدم الكوميسارية هو محاولة للقفز على إحدى المعالم المؤرخة لنضال المغاربة وبيضاوة تحديدا، ورغبة في طمس ما قدموه من تضحيات مرت جلها عبر الاعتقال في هذا المقر الأمني. بل الأكثر من ذلك، دعا المنوزي كل من عُذب في دهاليزها إلى التنديد وقول "لا" لمحو آثار ومعالم فظاعات "الشيفون" و"الطيارة"، وقساوة لحظات الاستنطاق، وكل مجريات التحقير التي يا ما تفن رئيس فرقة مكافحة العصابات في سلكها أمام الديمقراطيين الصامدين.
ومن جهته، اعتبر موسى سراج الدين، رئيس جمعية أولاد المدينة، عملية الإجهاز هاته صورة أخرى من صور الإجهاز على ذاكرة مدينة الدار البيضاء والبيضاويين، خصوصا في هذه الظرفية التي تثير أكثر من تساؤل. موجها النداء لكل مسؤول عن الشق الثقافي والتراثي بالبلد للوقوف على مدى "الخطورة" التي تعتري هذا الفعل الممنهج.. كما قال رشيد الأندلسي، رئيس جمعية "كازا ميموار"، بأن الأمر كان من المفروض أن يتخذ على صعيد لجنة التراث بالعمالة، بيد أن لا شيء من ذلك وقع في مخالفة للقوانين الجاري بها العمل.
وفيما استنكر رشيد الأندلسي، على صعيد آخر، عدم تعليق أي يافطة تشير إلى ما يعول إنشاؤه على تلك المساحة التي تقدر بـ 5087 مترا مربعا، يشار إلى أنه قد سبق لمديرية الأمن الوطني أن أبلغت بأن المشروع الجديد يتعلق ببناء مجمع أمني يمتد لـ 25180 مترا مربعا، مكون من ثمان طوابق من بينها طابقان أرضيان، ستشمل مقرات للاستقبال والإرشادات، وللفرقة الوطنية للشرطة القضائية ومختبر للشرطة العلمية، ومصلحة حوادث السير ودائرة أمنية تابعة لمنطقة أمن أنفا.