الخميس 18 إبريل 2024
فن وثقافة

بلقايد: "اَلْمَشْيَخَةْ" بين العيطة اَلْمَرْسَاوِيَةْ واَلْحَوْزِيَةْ على لسان الشيخة خَدِيجَةْ اَلدْخِيسِي

بلقايد: "اَلْمَشْيَخَةْ" بين العيطة اَلْمَرْسَاوِيَةْ واَلْحَوْزِيَةْ على لسان الشيخة خَدِيجَةْ اَلدْخِيسِي بلقايد ومشهد لمجموعة مخاليف الحوز

 في إطار فعالية تأبين الفنانين الشعبيين "قَشْبَالْ وُزَرْوَالْ"، نسعى اليوم فهم "اَلْمَشْيَخَةْ" في الثقافة الشعبية بشكل عام والعيطة المغربية بشكل خاص، من خلال مقاربتها بالإعتماد على الرواية الشفوية على لسان فنانة تعاطت هذا الفن في أكثر من مدينة، ومع أكثر من شيخ، حيث أكدت الشيخة خَدِيجَةْ اَلدْخِيسِي زوجة عَبْدْ اَلرَحْمَانْ اَلْغَنَامِي بأن المدخل والبوابة لتعاطي هذا الفن هو اَلطَهَارَةْ، فلا يمكن البدء في مزاولة الفرجة إلا إذا كانت المجموعة على طهارة تامة، بمعنى أن كل عناصر المجموعة ملزمون بالوضوء شأن الفرسان المزاولون للفروسية، لأن طهارة البدن شرط من شروط تحقيق الصفاء الروحي فالكل يكون إزاء ليلة هي ليلة (لَفْرَاجَةْ) التي لا تتحقق إلا وفق ترتيب معين، على اعتبار أن الموسيقى التقليدية وحصول المتعة بالتعاطي معها لا يتحقق إلا بالحضور الطاهر للجسد والروح، وكأننا إزاء طقس من الطقوس التي تستدعي المقدس الذي يستعمر الجسد والروح .

 

إن سائر الفعالية الفنية والجمالية المغربية ارتبطت فيما ارتبطت به بالبعد المقدس في الجانب العملي المُتعالق مع الثقافة اَلطُرُقِيَةْ واَلزَاوَيَاتِيَةْ منذ العصر الموحدي حيث كان النموذج المغربي يسعى إلى التمدد شرقا نحو المشرق العربي، وغربا نحو أوروبا  عبر إسبانيا. فبدأت تظهر البوادر الأولى لموسيقى السماع المترافقة مع إحياء ميلاد الرسول عليه السلام التي تهيمن على الثقافة المغربية الغير المقبولة من طرف التدين النصي باعتبارها بدعة حسب اعتقادهم .

 

مظاهر الشعرية المغربية باللغة المغربية أخذت في التشكل منذ هذه الحقبة التاريخية الفارقة في تاريخ المغرب الثقافي والسياسي مرورا بالعصر المريني، ليشكل العصر السعدي فترة ازدهار للشعر المغربي الذي استدعاه ظهور فن موسيقي جديد تمثل أساسا في فن الملحون الذي كان فن البلاطات ليصبح فيما بعد فن عامة الشعب .

 

هكذا كان الجنوب المغربي مهد موسيقى الملحون سواء بسوس أو سجلماسة وليكون ممهدا لكثير من الأَحْوَاشَاتْ العربية بدرعة وسوس، وكذلك المرددات الشعبية التي تنساب طوعا على لسان الشباب والنساء والتي لا تحتاج إلى كثير من اَلصَنْعَةْ .

 

لعل الدور الجهادي الذي اطلع به الجنوب وخاصة سوس إبان الهجمة الإيبرية والذي لعبت فيه الزوايا دورا محوريا، هو ما جعل اَلصَلَاحْ يطبع سائر مناحي الحياة الثقافية والعملية، وبذلك ظهرت موسيقى (اَلْجَدْبْ) سواء عند حْمَادْشَةْ، وعِيسَاوَةْ، وحتى ﯖْنَاوَةْ بهذه المناطق وإن عرفت انتشارا ملحوظا بالمدن التقليدية كمكناس نظرا لطابعها الثقافي والعسكري على السواء.

 

فن العيطة لم يكن ليخرج عن هذا المناخ المطبوع بطابع الحضور القوي للمقدس ولكن بالطريقة العملية وليست النصية. والعيطة المغربية هي صدى فني لتمجيد صُلَحَاءْ المجال الذي لهم دور محوري في حماية الأرض كَأُسْ من أُسُسْ المقدسات التي تبني المعتقد المغربي وتصوغ تصرفات الإنسان والعلاقات بين سائر مكونات المجتمع، وخاصة المجتمع والدولة فالتعاقد المقدس بينهما قائم على حماية هذا المقدس من أي مساس مسيء من طرف الأخر. وهكذا كانت العيطة وكان العيط في جزء منه مناجاة وتحاور روحي لغاية تحقيق توازن على مستوى المجال المطبوع بطابع الصراع والمغالبة .

 

إن المدخل الى "اَلْحَوْزِي" يبدأ بِرْجَالْ لَبْلَادْ، و"اَلْمَرْسَاوِي" يبدأ بِاَلْحَدَاوِيَاتْ، وهذا دلالة على استسلام هؤلاء لصلحاء هذه المناطق.

 

هذه الأعراف هي التي عايشتها خدوج الدخيسي حسب تصريحها، مع الكثير من الفنانين سواء مع المرحوم الشيخ أَحْمَدْ اَلطْوِيلْ الذي كان نجم زمانه في منطقة الحوز بأكمله، أو مع الشيخ وَلْدْ الجاري، برفقة الشيخة بَنْتْ اَلْعِيسَاوِي التي اشتغلت مع أبيها بالحلقة بجامع الفناء، ضابطة للإيقاع بِاَلْبَنْدِيرْ.  مارست كذلك مع الشيخ عَلَالْ بُوسَنَةْ. هذه المجموعات هي المدرسة التي أخذت عنها الشيخة خَدِيجَةْ اَلدْخِيسْ الحرفة، لأنها شأن الصنائع الأخرى الموجودة في المجال. والتمكن منها يكون بالمعاينة  والاستماع والتطبيق، مع إحاطة الشيخ بأدب مخصوص،  كتشحيم قوسه بمادة (صَلَبَانْ) من طرف العنصر المبتدئ بالمجموعة.

 

الفرجة تسير وفق حساب معين، وكل ابتعاد عن الحساب هو شذوذ وخروج عن الضوابط التي تؤطر الممارسة، فحتى أداء (لَعْيُوطْ) خاضع لحساب محدد، وكل شذوذ عنه يسمى بلغة أهل الحرفة بـ "اَلتَفْرَاطْ"، فلا يسمح بِاَلتَفْرَاطْ، لأنه يعني اختلال الميزان، وخروج عن الميازين المضبوطة المميزة للعيطة. لأن العيطة قبل أن تكون غناء، فهي ميزان، وأعراف نبيلة، بقدر نبل الثقافة المغربية والحضارة المغربية.