Monday 30 June 2025
كتاب الرأي

حميدي عبد الرفيع: تحولات العلاقة بين الدولة والجمعيات التربوية في المغرب من الشراكة إلى الإقصاء

حميدي عبد الرفيع: تحولات العلاقة بين الدولة والجمعيات التربوية في المغرب من الشراكة إلى الإقصاء حميدي عبد الرفيع

لطالما شكّلت الجمعيات التربوية في المغرب رافعة حقيقية للتنشئة الاجتماعية، وأداة فعالة لتأطير الأطفال والشباب، خصوصًا في ظل محدودية العرض المؤسساتي الرسمي. غير أن العقود الأخيرة شهدت تغيرًا عميقًا في طبيعة العلاقة بين الدولة وهذه الجمعيات، تحول من دعم ضمني لشراكة وطنية، إلى منطق يُغلب التحكم والاحتواء

من الامتداد الثوري إلى الانكماش المؤسساتي

تشكلت العديد من الجمعيات التربوية خلال لحظات تاريخية كان فيها الوعي الجماعي في تصاعد، وكان فيها الرهان التربوي والثقافي يتقاطع مع مشروع وطني لبناء المواطن لذا، لم تكن هذه الجمعيات مجرد تنظيمات مستقلة، بل امتدادًا لرؤية تربوية تحمل نفسًا تغييريًا، تشتغل على القيم والوعي والانخراط الجماعي

لكن هذا الامتداد التربوي الذي حملته الجمعيات بدأ يواجه مقاومة صامتة مع تغير أولويات الدولة وتطور بنية الحقل السياسي والاجتماعي. ففي ظل تصاعد المخاوف من الديناميات القاعدية وامتداد الوعي الجماعي، تحوّلت نظرة الدولة من التساهل أو الشراكة الرمزية إلى التوجس، ثم إلى منطق الاحتواء التدريجي. وهكذا، لم تعد الجمعيات التربوية تُرى كرافعة مجتمعية، بل كفاعلين يجب ضبط أدوارهم والتحكم في مساراتهم، لا سيما حينما يتقاطع خطابهم مع قيم المواطنة النقدية والتحرر التربوي

تفريغ فضاءات التأطير من بعدها التربوي

من أبرز تجليات هذا التحول الاستراتيجي، السعي الممنهج إلى تفريغ مؤسسات التنشئة الاجتماعية من مضمونها التربوي والمجتمعي، وتحويلها إلى فضاءات تُدار بمنطق التدبير الإداري أو التجاري، بدل أن تكون أدوات للتأطير والمواكبة. ويبرز في هذا السياق تفويت عدد من مراكز الاستقبال التابعة لوزارة الشباب والثقافة والتواصل لفائدة فاعلين خواص، في إطار شراكات ظاهرها التحديث والتدبير الجيد، وباطنها إقصاء تدريجي للجمعيات ذات الامتداد الشعبي. هذا التحول لا يؤدي فقط إلى تقليص إمكانيات الولوج أمام الفئات الهشة، بل يفرغ كذلك الفضاء العمومي من بعده التربوي، ويُقصي الفاعلين التربويين ، الذين كانوا يشكلون لعقود شريكًا مجتمعيًا في خدمة قضايا الطفولة والشباب

الجمعيات الوظيفية مقابل الجمعيات المستقلة

في سياق هذا التحول البنيوي، أضحت الدولة تُراهن بشكل متزايد على ما يُعرف بـ"الجمعيات الوظيفية"؛ وهي كيانات تُنشأ أو تُنتج ضمن منطق مقاولاتي أو تقني، هدفها الأساسي تنفيذ برامج مُهيكلة وممولة مسبقًا، دون أن تنبني على حاجة مجتمعية حقيقية أو انخراط ميداني فعلي. ويجري في هذا الإطار تهميش الجمعيات ذات الامتداد القاعدي، التي تمتلك مشروعًا تربويًا نابعًا من السياق المحلي واستقلالية في الرؤية والتدبير

هذه الجمعيات الوظيفية، التي غالبًا ما تفتقد الجذور في النسيج المجتمعي، لا تشتغل انطلاقًا من قناعة تربوية أو التزام مدني، بل تشتغل وفق منطق "المناولة الاجتماعية"، في إطار تعاقدات قصيرة الأمد تُملِيها الأجندات التمويلية أو التوجهات المؤسساتية الظرفية، مما يجعل أثرها محدودًا، ومردودها التربوي باهتًا إن وجد

التوجيه المؤسساتي والدعم المشروط

تمارس الدولة كذلك أشكالًا جديدة من التوجيه غير المباشر، تتجلى في منظومة من الأدوات "الناعمة" التي تُقيد استقلالية الفاعل الجمعوي دون إعلان مباشر لذلك. من بين هذه الأدوات: آليات التمويل المشروط التي تربط الدعم بتنفيذ برامج محددة سلفًا، والمساطر الإدارية المعقدة التي تُنهك القدرات التنظيمية للجمعيات، فضلًا عن تضييق فرص الاستفادة من الفضاءات العمومية التي كانت تمثل موردًا أساسيا للعمل الميداني

هذه الآليات، التي توحي في ظاهرها بالحكامة والشفافية، تُنتج في الواقع علاقة قهر بيروقراطي، تجعل الجمعيات التربوية المستقلة في موقع هش، وتضعها أمام معادلة صعبة: إما الالتزام بخط تربوي نابع من مشروع مجتمعي طويل النفس، أو الانخراط في منطق التكيف والتنازل من أجل البقاء والاستمرار، حتى وإن كان الثمن هو التفريط في جوهر رسالتها التربوية

منطق السوق بدل منطق الخدمة العامة

إن الخوصصة المقنَّعة لعدد من الفضاءات العمومية، وعلى رأسها مؤسسات التأطير الشبابي، تعكس بوضوح انتقالًا تدريجيًا نحو إخضاع مجالات التربية غير النظامية لمنطق السوق وآلياته التجارية. هذا التحول يُناقض في العمق فلسفة العمل الجمعوي، التي ترتكز على قيم التطوع، والمجانية، والانتماء المجتمعي، والتضامن الأفقي، بدل التراتبية المالية

حين تُحوَّل المخيمات الصيفية، وورشات التنشيط، وبرامج التكوين الشبابي، إلى خدمات مدفوعة الثمن تخضع للعرض والطلب، تتحوّل التربية من حق جماعي إلى سلعة، ويُقصى الأطفال والشباب من الفئات الشعبية من فرص التأطير الموازي والمصاحبة التربوية. وهكذا، يتكرس منطق الفرز الاجتماعي، وتتعمق الفوارق المجالية والطبقية، مما يُضعف من دور الفضاء العمومي كمجال للمساواة والمواطنة

في هذا الإطار، تتحول الدولة من راعٍ اجتماعي إلى فاعل مقاولاتي، يتنصل تدريجيًا من أدواره الأساسية في ضمان ولوج عادل إلى التربية غير النظامية، ويترك الجمعيات التربوية الأصيلة تواجه مصيرها في سوق غير متكافئ

خاتمة: أي أفق للجمعيات التربوية؟

أمام هذا السياق المعقّد والموسوم بتقلص هوامش الاستقلالية، وإعادة هيكلة الحقل الجمعوي بمنطق وظيفي صرف، تبرز ضرورة ملحّة لإعادة الاعتبار للمشروع التربوي الجمعوي كرافعة أساسية للتنشئة والمواطنة. ويتطلب ذلك تمكين الجمعيات المستقلة من فضاءات العمل، وتيسير ولوجها إلى الموارد العمومية، ورفع القيود البيروقراطية عنها، بدل إحكام الطوق التنظيمي والمالي حولها

إن بناء شراكة فعلية بين الدولة والمجتمع المدني لا يجب أن يمر عبر التوظيف التقني للجمعيات، بل عبر الاعتراف بدورها كمكوّن بنيوي في التنمية الديمقراطية، وكفضاء مستقل للتربية والتأطير والمرافعة. كما أن تثمين الأدوار التكوينية للجمعيات لا ينفصل عن ضرورة ضمان العدالة المجالية، وضمان استفادة جميع الفئات الاجتماعية من التربية غير النظامية، بعيدًا عن منطق السوق والتمييز الطبقي

إن مستقبل العمل الجمعوي التربوي في المغرب لن يُبنى إلا على قاعدة الثقة، والاستقلالية، والشراكة المتوازنة، في أفق إعادة بناء تعاقد اجتماعي جديد بين الدولة والمجتمع