الجمعة 19 إبريل 2024
مجتمع

الدكتور محمد شهبي: شكرا لكم.. بفضلكم أنا حيّ تغمرني الشمس وأستحمّ بضوء القمر!!

الدكتور محمد شهبي: شكرا لكم.. بفضلكم أنا حيّ تغمرني الشمس وأستحمّ بضوء القمر!! الدكتور محمد شهبي مع طاقمه الطبي والتمريضي
نشر الدكتور محمد شهبي، الأخصائي في طب وجراحة العيون، تدوينة مؤثرة على صفحته بالفايسبوك، يسرد فيها معاناته مع فيروس كورونا. أشهر من الألم بين الحياة والموت في انتظار معجزة من السماء، يختزلها في سطور ضاجّة بالحزن والوفاء لمن ساندوه وٱزروه في محنته. جريدة "أنفاس بريس" تنشر هذا البوح، وقصة كفاح طبيب لم يفقد الأمل، وظل يتشبث بآخر  رمق من الحياة، ويؤمن بأن قدرة الله فوق قدرة الأطباء.

"من لا يشكر الناس لا يشكر الله.
لكن هذا الشكر سيكون مضاعفا بلغة العرفان ورد الجميل إلى كل الذين آزروني في محنتي، وجعلوني أعود إلى الحياة. من خلال النظر في عيونهم كنت أرى خوفهم وحزنهم ودعواتهم الخفية. كنت أسمع كل همسة في صدورهم. 
في البدء كانت أمّي، من أجل دموعها الساخنة عدت من الموت. من أجل خبزها وحسائها الدافئ وصدرها الحنون، قدمتُ استعطافا إلى الموت، وقلتُ له امهلني بعض الوقت لأسدّد ديوني إلى أمّي. 
وأنا معلّق بين الحياة والموت ثلاثة لم يفارقوني كانوا كظلّي: الدكتورة بنعثمان وكلثوم وعزيز. قضوا معي رحلة المرض بأدقّ تفاصيلها وحيثياتها. مهما شكرتهم لن أوفيهم حقهم.. شكرا على حبكم وتضحياتكم ورعايتكم لمريض كان يحتضر. أنا ذلك الرجل "المحتضر" أهديتموني أرواحكم لأعيش بها. 
بفضلكم عاد الدكتور محمد شهبي من النسيان، لأحمل العيون في كفّي.
ماذا أقول عن الدكتور رشدي؟ كان حارس أنفاسي وضابط إيقاع لروحي. صارع معي المرض، كنت أعلم بأني لم أكن وحيدا أحارب فيروس كورونا. الدكتور رشدي كان في ظهري، وسندي في المغرب وألمانيا. ألف تحية لك يا رشدي منّي أنا الدكتور محمد شهبي. كم كنت شهما معي، بنبل الطبيب ووفاء الصديق.
لا أنسى في لحظة الشكر والاعتراف هاته أن أرفع القبعة للجندي بنّاني الذي كان يروّض عضلات جسمي المرتخية، ويطفئ حرائقها. أسمّيك جنديا، لأنك كنتَ تحارب معي.. كنتَ  كالإطفائي، يداك تخففان ألمي، وتلعقان جراحي. 
الشكر لا يكفي وحده لطبيب يعرف ما قيمة الحياة، وما معنى أن يعود يمزّق ميت كفنه. رسالة الطبيب الإنسانية هي زراعة الأمل.. الأمل في الحياة.
لن أنسى خدمات مختبرات بزاري وفكاك، شكرا لكل الأطقم التي كانت تسهر على رعايتي كلما جئت محمولا والألم يعصرني.
إلى مرضاي الذين افتقدوني.. إلى فريق الطبيبات والأطباء الممرضات والممرضين بمصحة العين كاليفورنيا، كم أدفع لكم من أقساط حبكم؟ كم تكفيني من الدّيون لأسددها لكم؟ كم ذرفتم من الدموع؟ كم استنزٓفٓكم الحزن؟ هل أستحق أنا كلّ هذا الحبّ والوفاء؟
حتى مرضاي مدين لهم، بدعواتهم وتضرّعهم إلى الله قاومت المرض، لم أرد أن أخذلكم، أكفّكم التي كنتم ترفعونها إلى السماء في صلواتكم درعا يطوقني. لا تشكّوا لحظة واحدة.. علاجي لم يكن دواء، بل دعاء صادقا استجاب له الله.  
كيف أنسى بسهولة توحّد قلوب زملائي الأطباء دفعة فوج 1981، في ليلة واحدة ولحظة ستظل موشومة، امتلأت الأفئدة بكلام الله، في وقت استبد بي الألم، فتطوع كل طبيب لقراءة حزبين من القرآن الكريم، ليصل مجموع الأحزاب إلى ستين حزبا، في ليلة امتزج فيها التضرع إلى الله بدموع الوفاء. 
إذا عدت إلى الحياة، فكي أقول لكم: شكرا.. بفضلكم أنا حيّ تغمرني الشمس وأستحمّ بضوء القمر!! 
صحيح أن تلك العودة لم تكن مكتملة، إلا بعد أن دخلت غرفة العمليات التي أعتبرها محرابي وكوني وعالمي، وداعبت العيون بأناملي.. تلك الأنامل التي كانت ترتعش وهي تشرب الدواء. وأنا  أقص شريط غرفة العمليات، أشعر بالحياة تتدفق داخلي، والفرحة تغمر صدري، وأستطيع أن أعترف لكم وللعالم: اليوم شفيت وأنا أعيد النور إلى عين غرقت في أمواج المياه البيضاء. أنا اليوم أستعيد مجذاف الحياة لأبحر في عيونكم، فكم أنت منصف أيها القدر.. كم أنت عادل يا ربي!!!!  
من يسألني اليوم: كيف عدتَ؟
أجيبه بكلمتين: بمشيئة الله!!
بقدرة الله تعالى عدتُ من الموت، بمعجزة إلاهية أتنّفس، أضحك، أبكي، أركض. الله كان معي في كل لحظة، أشعر به في كل زفرة.. في كل جرعة هواء أستنشقها. 
لو لم أكن طبيباً لقلت إنها نزلة برد حادّة، ولعنتُ الأطباء الذين لم يكتبوا لي الدواء المناسب. لأنّي طبيب كانت المعاناة مضاعفة، لمعرفتي المسبقة بأني مريض على حافّة الحياة ينتظر الموت بملابس الإعدام!!
حدث كلّ شيء فجأة وبدون مقدّمات. يوم 3 دجنبر 2020 احتلّني الفيروس. لم يستأذنني، لم يطرق حتى الباب. منذ ذلك التاريخ بدأت في العلاج. لم يكن الفيروس شرساً في البداية. بعد مرور أسبوع، وفي 11 دجنبر أحسست باختناق شديد وكأنّ روحي تريد أن تغادرني. أتنفسّ بصعوبة.. شعور بالألم والغثيان، فقدت شهيتي في الأكل.. قدماي منهكتان كأنهما تحملان جبلاً. قضيت أسبوعا إضافيا في الجحيم قبل أن أقرّر اختيارا صعباً ومصيريّاً: أن أكون "لاجئاً" في مصحتي. أعددت حقيبة السفر وأنا أجهل كم سأقضي من يوم في الطابق العلوي من المصحة. شعور قاتل أحس به والأيام تمرّ ثقيلة وكئيبة، كلّ يوم أقترب من الموت وأبتعد عن الحياة. كل يوم يسرق منّي الفيروس ابتسامة، حتى تحوّل وجهي إلى لوحة من الرّماد، في تلك الأثناء وأنا تحت تأثير تخدير المرض، وقّع جسدي في غيابي "صفقة" طويلة الأمد مع السرير الذي كان يحملني. صفقة لم تكن عادلة، وافقت عليها على مضضٍ وتحت الإكراه!!
الرحلة إلى ألمانيا يوم 20 يناير 2021 كانت رحلة إلى المجهول، إمّا العودة في كفني أو كتابة ولادة ثانية وعمر جديد!!
9 أسابيع قضيتها هناك بمصحة خاصة  بعلاج الرئة، لا أخلع أناببب الأوكسجين.. الأطباء الذين كانوا يشرفون على وضعي الصحي فقدوا الأمل، وحتى مهنتي كطبيب سهلت عليهم مهمة الاعتراف لي بكل شيء عن وضعي الصحي، والحرائق الفادحة التي أفسدت أنسجة الرئتين. بدأوا يتعاملون معي كميت، وينتظرون فقط إعلان نهايتي. لكنّي كنت على يقين بأنّ من يقرّر في مواعيد الموت هو الله عز وجلّ وليس الأطباء، ولو كانوا ببشرة بيضاء وعيون زرقاء وشعر أشقر. كنتُ أناجي الله في خلوتي لأطلب منه زمناً مستقطعاً ووقتاً إضافيّاً، فهو الشّافي والظاهر والباطن والقوي والقهار والمحيي والمميت. 
حتى لو كنتُ طبيباً أومن بحتمية العلم، أومن أكثر بالمعجزات التي هي من تخصص إلاهي. وحدثت معجزة الشفاء التي كنت أنتظرها. الله تعالى قرأ  رسالتي، وكان الجواب فوريّاً. 
فزتُ بفرصة حياة ثانية وولادة جديدة. 9 أسابيع كانت فاصلة في مصيري. يوم 14 فبراير 2021، والعشّاق في العالم بأسره يحتفلون بالسّان فلانتاين وعيد الحبّ، كنتُ أحتفل أنا مع الأطباء والممرضات والممرضين بمعجزة شفائي. أتذكّر يوم السان فلانتاين الذي خطوت فيه خطواتي الأولى بعد شهور من الشلّل اللاإرادي والعجز. احتفل معي كل من بالمستشفى، صفّقوا، هتفوا تحت تأثير الدهشة والإعجاب. كطفل كنت أمشي أمامهم وأنا أخطو خطواتي الأولى، وفي كلّ خطوة ينتظرون أن أسقط وتتعثّر قدماي. لا أستند إلّا على كتف الله.. يمسك يديّ، ينير طريقي بعد أيام سواد طويلة.
بقية القصة تعرفونها!!

 
من لا يشكر الناس لا يشكر الله. كل من ذكرت أسماءهم ومن لم أذكر أسماءهم، الله أماتني وأحياني لأتعلّم درساً بليغاً في هذه الحياة وهو "نعمة الروح" التي بثها في أبداننا، وسمادها هي عبادته.
شكراً لله.. شكراً لكم.. وكلمتي الأخيرة لكم: حافظوا على أرواحكم واجعلوها طاهرة وزكية حتى يستردّها منكم خالقكم طاهرة وزكية وشفافة!"!!