السبت 18 مايو 2024
فن وثقافة

مصب نهر تانسيفت يروي حكايات قبيلة "ركراكة" و"السبعة رجال" بين الأمس واليوم (7)

 
 
مصب نهر تانسيفت يروي حكايات قبيلة "ركراكة" و"السبعة رجال" بين الأمس واليوم (7) "مول العودة" بموسم ركراكة يتوسط الشيخ بوجمعة بن عكيدة ووجبة الكسكس

تمكن الوباء اللعين "كورونا" من تأجيل موسم طواف شرفاء "ركراكة" برسم سنة 2020، ووقفت الجائحة سدا منيعا ضد قبائل ركراكة والشياظمة وعبدة ودكالة وغيرهم في إحياء سنة التواصل الروحي والاجتماعي والاقتصادي.. وحرمتهم من الاحتفاء واستحضار موروثهم الشعبي وعاداتهم وطقوسهم وتقاليدهم التي ألفوا إقامتها كل سنة في فصل الربيع (بعد خروج الليالي).

في سفر "أنفاس بريس" والنبش في موضوع ظاهرة موسم طواف "ركراكة" الضارب في القدم، بعد الاستعانة في الحلقة الأولى ببعض المصادر التاريخية التي تناولت "السبعة رجال" والتعريف بهم، وبعلاقتهم بالمجال والإنسان، وكيف استوطنوا الأرض وقاوموا الغزاة، للمحافظة على استقرارهم وأمنهم واستمرار نسبهم، وقدمنا ملخص لمحة تاريخية عن "ركراكة" و"السبعة رجال" والسفر في زمن حروبهم وصراعاتهم مع المحتل والغزاة، وكيف استطاعت القبلية ضمان استمرارها وصولا إلى ترسيخ هذا الموسم السنوي الذي يحج له المغاربة من كل أنحاء الوطن لإحياء صلة الرحم.

في الحلقة السابعة من ذاكرة (مصب نهر تانسيفت يروي حكايات قبيلة "ركراكة" و"السبعة رجال" بين الأمس واليوم)، يفتح الشيخ بوجمعة بن عكيدة قلبه للجريدة ليحكي ويصف ارتباط المجموعة بـ "دور ركراكة" ارتباطا روحيا وعاطفيا ووجدانيا، ويروي الشيخ بوجمعة كيف جاءت فكرة مصاحبة أولاد بن عكيدة طواف ركراكة والانتقال من موسم إلى آخر سنة 1972. وكيف تدبروا أمرهم.

 

"دور ركراكة"..سوق عكاظ متجدد روحيا ودينيا واقتصاديا وفنيا وثقافي

"ونحن نحط الرحال في نقطة الانطلاق بموسم سيدي علي بوعلي، أحسسنا بنوع من الألفة والدفء الاجتماعي بين جموع الضيوف والزوار والوافدين من مختلف مناطق المغرب"، يقول هرم شيخ العيطة سي بوجمعة ولد بن عكيدة؛ مضيفا: "دور ركراكة يستقطب أبناء القبائل ذات الأصول الركراكية من مختلف مدن المغرب من الجنوب والشمال والغرب والشرق، وكأنه موسم حج يتوافد عليه المغاربة من كل صوب وحدب، حتى البعض من الجالية المغربية يحرصون على الحضور في الزمان والمكان لتقاسم لحظة الفرح وصلة الرحم مع أهاليهم والتبرك من شرفاء ركراكة والمساهمة في الرواج الاقتصادي والاجتماعي والسياحي والفني، والاستمتاع بنعم فصل الربيع".

 

ويصف محدثنا مشهد انطلاق فعاليات ربيع دور ركراكة من زاوية بن حميدة موطن ضريح سيدي علي بن بوعلي التابع لنفوذ الجماعة القروية سيدي علي الكراتي بقيادة ركراكة بإقليم الصويرة، بـ "طقوس صوفية وربانية تتخللها طقوس الحفل الديني الذي تترأسه عمالة إقليم الصويرة رفقة نقيب زوايا الشرفاء الركراكيين محمدان بن محمد وشرفاء الزوايا، وممثلين عن المؤسسات المنتخبة محليا وإقليميا ووطنيا، حيث يتم نحر الذبيحة بعد صلاة الجمعة، في أجواء احتفالية ممتعة".

 

ويسترسل بوجمعة بن عكيدة في وصف تلك اللحظة بالغرائبية قائلا: "لحظة فرح تعم أرجاء المكان، كل الوجوه ترسم ابتسامة الرضا وتوزع القبل وتتبادل تحية السلام والتهاني بلقاء سنوي متجدد في حضرة رجال لبلاد (السبعة رجال)... تجد نفسك محاطا بالمحبة والسلام والأمن وسط عائلة واحدة بين جموع الحاضرين، لا فرق بين الناس في دور ركراكة إلا بالتقوى و بحسن المعاملة والاحترام والتقدير"، يقول الشيخ بوجمعة بن عكيدة الذي انبهر بـ "قدرة شرفاء ركراكة استعمال سلطتهم المعنوية والروحية على ضبط الجموع الغفيرة التي تتقاطر على المنطقة، وترافق الدور لمختلف الزوايا والأضرحة، وتحط الرحال من موسم إلى آخر... منهم شريحة التجار الصغار والمتوسطين، ومحترفي فن الحلقة، وشيوخ وشيخات مجموعات الغناء الشعبي، وفرق عبيدات الرمى، وعيساوة، و كناوة.. وأهل الحال"، وأكد بأن المجال الجغرافي بمنطقتي الشياظمة وحاحا يتحول حقيقة إلى "سوق عكاظ روحي وديني وتجاري وفني وثقافي شعبي يترجم غنى وتعدد وتنوع موروث ثقافتنا الشعبية المغربية".

 

وحسب الفنان الأصيل سي بوجمعة بن عكيدة فموسم دور (طواف) ركراكة الربيعي هو "مناسبة روحية و دينية هامة تحمل في أحشائها رواجا اقتصاديا واجتماعيا وسياحيا٬ حيث يتحول مجال إقليم الصويرة قبلة للوافدين من خارج وداخل المغرب٬ ومختبرا حقيقيا لإنعاش الحركة التجارية بمختلف الزوايا والمواسم الـ (44) على مدى 44 يوما٬ حيث يجوب كافة أنحاء تراب الإقليم عبر منطقة الشياظمة شمالا و منطقة حاحا جنوبا".

 

على امتداد جغرافيا تضاريس الشياظمة وحاحا، وبين هضابها وشعابها ووديانها يلتقط الضيف والزائر الوافد على موسم ركراكة، مشاهد مبهرة لقوافل من الدواب تتبعها طوابير من المواطنات والمواطنين مشيا على الأقدام بين حقول الشعير والقمح وأغراس أشجار الأركان والزيتون الشامخة، وتصادف مجموعات من الناس الرحل تأخذ قسطا من الراحة واستعادة الأنفاس بعد سير طويل، منهم من أعد كأس شاي بين أحضان الطبيعة، فرحا بفصل الربيع الذي يدخل البهجة على النفوس، ويزيح أغلال الحياة ورتابة العيش بعد سنة من الانتظار لانطلاق موسم ركراكة محج الشرفاء.

 

"دور ركراكة، متنفس اجتماعي واقتصادي وعلاج نفسي ومعنوي لكل الوافدين، هي لحظة لاسترجاع ذاكرة أمجاد ركراكة الأحرار، واقتفاء أثر الصالحين الذين رسخوا قيم الأخلاق والإيثار والكرم الحاتمي، وفرصة لتطهير الذات من شوائب النفس والروح"، يقول بوجمعة بن عكيدة الذي أكد على أن المجموعة وضعت نصب أعينها "احترام المكان والزمان في حضرة الشرفاء و الأولياء والصالحين، وعدم التعاطي مع المحرمات والمبيقات التي تعكر صفو وزاج الشرفاء والصالحية"، وأضاف قائلا: "دخلنا لدور ركراكة سنة 1972، طاهرين مطهرين وخرجنا منه طاهرين مطهرين بعد طوافنا على كل مواسم الدور الربيعي والذي دام أربعة وأربعين يوما، و عدنا لأسفي أنقياء و أصفياء الذهن والذات حاملين بركة الشرفة ركراكة لحرار".

 

وأوضح محدثنا بأنه "لم ير في تلك الفترة أي أحد مخمورا، أو يمارس سلوكا شاذا، أو أي تحرش كيفما كان نوعه ومصدره، يسيء للحظة الروحية التي يعيشها الزوار وضيوف دور ركراكة، الجميع منضبط للطقوس والعادات، دون إظهار أي سلوك يسيء للحظة الصوفية والربانية ومظاهر الفرجة والفرح"...

كانت كل المجموعات الغنائية الشعبية، ورواد الحلقة ومختلف الفنانين ويعض ضيوف الدور، يستأجرون غرفا مستقلة للإقامة في بعض المناطق المتاخمة للزوايا والأضرحة، ويستغلونها للنوم والاستراحة ونقطة اللقاء، ومن تم يباشرون تواصلهم و أعمالهم ومهنهم المختلفة "كلما انتقلنا من موسم لآخر، كنا نكتري غرفة للإقامة والنوم، نضع فيها آلاتنا الموسيقية والإيقاعية وحقائب ملابسنا وأغطيتنا وبعض المواد الاستهلاكية للتغذية، وكنا نجتمع فيها مع الراغبين من العائلات في إحياء سمر أو سهرة ليلية بالدواوير المجاورة لكل موسم جاء دوره لاستقبال الزوار والضيوف والسياح.. واستمر حالنا على ذلك 44 يوما".