الجمعة 19 إبريل 2024
سياسة

ثورة عبد الهادي بوطالب والمسيرة الخضراء

ثورة عبد الهادي بوطالب والمسيرة الخضراء الراحل الأستاذ عبد الهادي بوطالب
في كتاب "نصف قرن في السياسة" وفي برنامج الجزيرة "شاهد على العصر" يتحدث الراحل الأستاذ عبد الهادي بوطالب، عن المسيرة الخضراء وعلاقته بهذا الحدث التاريخي. إذ بعد سنوات، من الاعتزال السياسي، يعود عبد الهادي بوطالب إلى معترك السياسة، سفيرا في الولايات المتحدة الأمريكية. لقد عاد إلى السياسة، عبر المسيرة، حيث يقول في هذا الصدد، بأن الملك الحسن الثاني بعث إليه الصديق أحمد بنسودة مدير الديوان الملكي آنذاك، وأبلغه أن الملك يعرض عليه أن يذهب سفيرا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، فكان جواب عبد الهادي بوطالب، كيف يمكن أن أكون سفيرا بعد أن تقلدت مناصب عليا. بعد هذا توجه الأستاذ عبد الهادي بوطالب إلى الملك وكان ذلك قبل انطلاق المسيرة بسنة أي في أوائل نونبر 1974، ليشرح له الملك الأسباب الذي أدت إلى اتخاذ قرار تعيينه سفيرا بواشنطن.
يتضح من هذا أن التحضير للمسيرة، لم يكن مرتجلا، بل اتخذ في سنة 1974 وأن الملك الحسن الثاني، كان يتخذ كل الترتيبات لإنجاح المسيرة تعلق الأمر بالتعبئة الداخلية أو بالعلاقات الديبلوماسية، فضلا عن إعداد الأغاني الحماسية وكل ما يستوجبه الحدث من إعداد وتحضير مادي وأدبي.
والواقع، أنه منذ أن أعلن عن التطوع للمشاركة في المسيرة، تقاطرت أفواج المواطنين والمواطنات على المقاطعات الإدارية للتسجيل، مما شكل مفاجأة للجميع، من الحكم إلى الأحزاب إلى المجتمع الدولي، مما برهن عن عمق وتجذر الحس الوطني لدى الشعب المغربي. لقد كان المغرب يتهيأ آنذاك للخروج من مرحلة ما يسمى بسنوات الرصاص وحالة الاستثناء، حيث انفرجت الأجواء السياسية وأصبح المغرب يعيش في مناخ جديد، يطبعه التحضير للمسلسل الديمقراطي واستكمال الوحدة الترابية.
واختيار الأستاذ عبد الهادي بوطالب للذهاب إلى واشنطن كان اختيارا حكيما، يتحدث عنه الراحل في كتاب "نصف قرن في السياسة"، حيث يشير إلى ما قاله له الملك الحسن الثاني بالقول، وما قاله لي أي الملك، "أنا لم أحتج إليك لتكون سفيرا فحسب، بل لأنك مكافح وطني كانت لك مواقف في الحركة الوطنية، وعايشتَ جميع التطورات التاريخية التي عرفها المغرب قبل الاستقلال وبعده. وأريد ألا تفوتك فرصة الحضور في منعطف تاريخي مهم أحرص على أن تكون أحد أطرافه وفي طليعة المشاركين فيه". فسألته : "ما هو يا جلالة الملك؟". فأجاب : "تعلم أن قضية الصحراء تهمني، وأنني أشرت في عدد من خطبي إلى أنه لا يمكنني أن أتركها بدون حل. والحل هو استرجاعها وأنا قد نوعتُ الأساليب التي عرضتها على الإسبان لتحرير الصحراء بالتوافق ووجدتهم غير مستعدين. الآن أنت تذكر أنك عشتَ معي المظاهرة التي خرجت فيها متسللا وأنا داخلي بالمعهد الملكي للتظاهر مع الوطنيين بالمشور الملكي بالرباط. وأريد الآن أن نقوم بمظاهرة شعبية كبرى من أقصى المغرب إلى أدناه، نضغط بها على إسبانيا ونرفع صوتنا : يسقط الاستعمار الإسباني وستكون هذه المظاهرة كبرى المظاهرات في تاريخ المغرب". فاستفسرته عن حقيقة هذه المظاهرة فرد علي : "لا أستطيع أن أقول لك الآن أكثر. المظاهرة ستكون كبرى وستثير ثائرة أصدقائنا وحلفائنا، كما ستزلزل أعداء تحرير الصحراء. وأنا الآن أريد أن تكون مراكز ديبلوماسيتنا في الخارج وفي أيد كفؤة، أمينة للدفاع عن المشروع الذي سأعلنه. واخترتك سفيرا في واشنطن لهذه الغاية". فقلت له : "يا جلالة الملك، بفضل ثقتك في سعدتُ بتولي مهام كبرى، فكيف تراني أعود لأتسلق درجات السلم من البداية كسفير؟".
علق الملك قائلا : "هذا الحدث مهم جدا، وسترى فيما بعدُ أنني أسديت إليك خيرا بإعطائك دورا فيه سيبقى معه اسمك ضمن أسماء من سيصنعون الحدث. واخترتك لمركز واشنطن المهم الذي لا يذهب إليه الوزراء الأولون السابقون أو وزراء الخارجية السابقون، أو من تقلبوا في مهام كبرى، مثل مهامك السابقة.
هكذا يحكي لنا الأستاذ عبد الهادي بوطالب كيف أصبح سفيرا في واشنطن، ويحكي في نفس الوقت كيف كانت تجربته هناك، وهو يمارس عمله الديبلوماسي بشرح موقف المغرب. وبخصوص المسيرة، يقول بأن الأمريكيين لم يكونوا على علم بها قبل انطلاقها بما فيهم هو نفسه، حيث كان الملك الحسن الثاني قد أخبره بأن المغرب سيقبل على تنظيم مظاهرة كبرى فقط.
وبعد الإعلان عن المسيرة، يتحدث الأستاذ عبد الهادي بوطالب عن الحذر الأمريكي وكيف كانت تجري اتصالاته مع الخارجية الأمريكية وعرابها آنذاك هنري كيسنجر. وتتحدث بعض الوثائق الرسمية الأمريكية، كيف كان يقدم الأستاذ عبد الهادي بوطالب شروحاته للأمريكيين ولوزير خارجيتهم كيسنجر، وفي وثيقة مؤرخة في 17 أكتوبر 1975، وفي لقاء جمع بين كيسنجر وبوطالب، يتحدث الفقيد، عن كون إسبانيا كانت تعترف دائما بأن الصحراء مغربية وأن الجلاء عنها مسألة وقت وأن رأي محكمة العدل الدولية ولجنة تقصي الحقائق جاء لصالح المطالب المغربية، وأن المغرب لن يبدأ هجوما أو اعتداء على الصحراء ولا يريد حربا مع إسبانيا ولكن يريد حوارا وتفاوضا لحل المشكل. كان هناك حذر أمريكي وتخوف من اندلاع الحرب بين المغرب وإسبانيا ولم يتنفس الأمريكيون الصعداء، يقول الأستاذ عبد الهادي بوطالب إلا حينما علموا أن الجنرال فرانكو بعث رسولا إلى الملك الحسن الثاني يبلغه استعداد إسبانيا للدخول في مفاوضات مع المغرب لإنهاء مشكلة الصحراء.
ودخل المغرب وإسبانيا في مفاوضات وتوقفت المسيرة وأبرمت معاهدة مدريد التي خرجت منها موريتانيا بعد أن هددتها الجزائر حيث قال بومدين للرئيس الموريتاني المختار ولد دادة، وهدده بالقول، "ارفع يدك عن الصحراء، انسحب وانفض يدك من التعاون مع المغرب وإلا فنحن لك بالمرصاد...".
لقد كانت تجربة الأستاذ عبد الهادي بوطالب، وهو سفير بواشنطن، متميزة، سواء بالنظر للتطورات التي عرفها ملف الصحراء أو بالنظر لعمله الديبلوماسي وعلاقاته المتنوعة مع الإدارة الأمريكية والكونغرس، والتي يتحدث عنها الأستاذ في كتابه المشار إليه والتي ينبغي أن تكون مرجعا للديبلوماسيين الشباب.
لقد دون الأستاذ عبد الهادي بوطالب هذه التجربة في كتابه، كما كتب عدة مقالات حول موضوع الصحراء المغربية. فبخصوص المسيرة، كتب مقالا تحت عنوان، "المسيرة الخضراء (المظاهرة) إبداع فريد في حركات التحرير العالمية". في هذا المقال كما هو الحال في الحوار الذي أجراه مع الصحفي المقتدر حاتم البطيوي، يتحدث الأستاذ عبد الهادي بوطالب عن تنظيم المسيرة، ويقول بأن أعداد المتطوعين تجاوزت 3 ملايين نسمة، وأن المشاركين بلغوا أكثر من 500 ألف وبموازاة لذلك، فقد كتب الأستاذ عبد الهادي بوطالب عدة مقالات في الموضوع، من بينها مقال حول الإشكالية القانونية لحق الشعوب في تقرير مصيرها وحق الدول في الحفاظ على وحدة ترابها. ويقول في هذا الباب، بأن هذا الحق أقرته الأمم المتحدة لتحرير الشعوب من الاستعمار وليس لتفتيت وحدة الشعوب مواطنة وسيادة وترابا وطنيا إذ تنص المادة الرابعة من القرار الأممي 1514 "إن لكل شعب الحق في ممارسة جميع حقوقه في الاستقلال الوطني الشامل، وبسط حكمه على كامل ترابه الذي لا يجوز المس به أو تجزئته". وهو يرفع كل التباس يقول بوطالب ويبدد كل خلط بين حق الشعوب في التحرير من الاستعمار وبين استعمال حق تقرير مصير الشعوب في شل وحدتها وتقسيمها إلى كيانات متفرقة. ويشير الأستاذ عبد الهادي بوطالب في هذا الإطار إلى قرار المجلس الأعلى للقضاء بكندا الذي جاء فيه ما يلي : "وقد أصدر المجلس الأعلى للقضاء أخيرا في كندا قرارا بمنع الحكومة الكندية المركزية من التخلي عن "كيبيك" وعدم السماح بالاستقلال، لأن الحكومة لا تملك هذا الحق. وهي ملزمة بالتقيد بمبدأ واجب الحفاظ على وحدة كندا الترابية وعلى وحدة سيادة الوطن الكندي. وأضاف القرار أنه لا يجوز أن يُطبق على حالة "كيبيك" التي توجد فيها حركة انفصالية تريد أن تطبق الفرنكفونية مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها. وقالت المحكمة العليا الكندية إنه لا يوجد في القانون الدولي ما يسمى حق فصيلة من الشعب في الانفصال عن وطنها بإرادتها الانفرادية.
وأثار قرار المحكمة إشكالية تعريف "الشعب" الذي لم ينته القانون الدولي إلى تعريف المراد منه. وقال إنه لا يمكن أن يعتبر شعبا فصيلة منه تعمل بإرادتها المنفردة للانفصال عن شعبها الكبير الذي تؤطره دولة ذات سيادة وينتشر على تراب وطني واسع. لذلك كله حظرت المحكمة الكندية العليا على الحكومة الكندية المركزية أن تقبل هذا الانفصال أو تسلم به أو تساعد عليه. وجاء في ختام قرار المحكمة الكندية ما يلي : "إن أية دولة تدير شؤونها حكومة لا تفرق بين فصائل شعبها المنتشرة على ترابها الوطني الواحد، ولا تقيم بينها تمييزا عنصريا، وتعامل شعبها بمبادئ المساواة، لا يجوز لها بمقتضى القانون الدولي أن تقبل الانفصال أو تساعد عليه، وإنما يكون واجبها الأوحد هو المحافظة على ترابها وسيادتها الوطنية على هذا التراب.
وكانت ألمانيا الفيدرالية رفضت تطبيق مبدأ حق تقرير المصير لألمانيا الشرقية بحجة أن هذا الحق لا يعطى لجزء من الشعب بقصد الانفصال عن الوطن الواحد.
إذن في الذكرى الخامسة والأربعين للمسيرة الخضراء، نستحضر ما قام به الأستاذ عبد الهادي بوطالب في الدفاع عن القضية الوطنية، حيث يمثل دفاعه هذا، امتدادا لنضاله الوطني من أجل الاستقلال، ونضاله السياسي من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
واليوم، والمغرب يخلد ذكرى المسيرة لابد من أن نقول بأن قضية الصحراء عرفت تطورات إيجابية حيث ينتصر الحق المغربي ضدا على التآمر والتناور الذي يخوضه مع كامل الأسف، الأشقاء في الجزائر، منذ عهد هواري بومدين. لكن ها هي القضية اليوم، تشهد تحولات على المستوى الأممي، حيث أصبحت الدعوة إلى الحل السياسي هي القاعدة التي تتحكم في القرارات الدولية، وأصبح مقترح الحكم الذاتي في إطار السيادة المغربية والوحدة الوطنية، هو المقترح الذي يباركه المنتظم الدولي وأغلب دول العالم. يمكن القول إذن، بأن المغرب ربح معركة الأرض لكن ما زالت أمامه المعركة الديبلوماسية خاصة على المستوى الأفريقي بطرد ما يسمى بالجمهورية الصحراوية من المنتظم الأفريقي، وهي معركة سيربحها المغرب قريبا أو على المدى المتوسط، حيث ستنتصر في النهاية الحكمة والتبصر ضدا على المؤامرات والمناورات التي تهدف إلى المس بوحدة الشعوب.
عن: مؤسسة عبد الهادي بوطالب للثقافة والعلم والتنوير الفكري