بعد أكثر من عقدين على انطلاق تجربة العدالة الانتقالية في المغرب، لم يعد من الدقيق التعامل معها باعتبارها ملفًا أُغلق أو مرحلةً استُنفدت بانتهاء أشغال هيئة الإنصاف والمصالحة. فالسياق السياسي والمؤسسي الراهن يسمح بقراءة أوسع لهذه التجربة، بوصفها مسارًا إصلاحيًا متدرجًا اختارته الدولة المغربية كإطار مرجعي لمعالجة ماضي الانتهاكات الجسيمة، وبناء الثقة، وتعزيز السلم المجتمعي، وترسيخ دولة القانون.
لقد شكّلت التجربة المغربية في العدالة الانتقالية نموذجًا خاصًا في السياقين الإقليمي والدولي، ليس فقط من حيث مضمونها، بل من حيث المنهج الذي قامت عليه. فقد اختار المغرب، في سياق تاريخي وسياسي معقّد، مقاربة الإصلاح في إطار الاستمرارية المؤسساتية، بما أتاح مواجهة إرث ثقيل من الانتهاكات، تتحمّل فيه مختلف أطراف الصراع مسؤوليات محددة، دون السقوط في منطق القطيعة أو زعزعة استقرار الدولة. وهو خيار يعكس وعيًا سياسيًا عميقًا بأن العدالة الانتقالية ليست فعل تصفية للماضي، بل أداة لإعادة تنظيم العلاقة بين الدولة والمجتمع على أسس الاعتراف والإنصاف وضمان عدم التكرار.
في هذا الإطار، لا يمكن اختزال العدالة الانتقالية في هيئة أو في زمن مؤسسي محدود. فقد مثّلت هيئة الإنصاف والمصالحة لحظة مفصلية في مسار أوسع، ساهم في كشف الحقيقة، وجبر الضرر، وفتح أفق إصلاحات هيكلية. غير أن العدالة الانتقالية، في جوهرها، هي منهجية سياسية وقانونية ممتدة، تواكب مسار التحول الديمقراطي، وتعمل على إدماج نتائج المصالحة في السياسات العمومية والبنية الدستورية والمؤسساتية للدولة. ينتهي زمن الإجراء، لكن يستمر زمن المنهج.
ويقتضي هذا المسار تمييزًا مفاهيميًا ضروريًا بين المصالحة والعدالة الانتقالية. فالمصالحة فعل سياسي سيادي، له زمنه ورمزيته وحدوده. أما العدالة الانتقالية فهي الإطار الذي يُمكّن من تحويل المصالحة من لحظة رمزية إلى دينامية مؤسسية مستدامة، تُسهم في بناء الثقة وتعزيز الشرعية الديمقراطية على المدى المتوسط والطويل.
وقد تجسّد الأثر التراكمي لهذا الخيار الإصلاحي بشكل واضح في دستور 2011، الذي نقل عددًا من مبادئ العدالة الانتقالية من مستوى التوصية إلى مستوى الالتزام الدستوري. فقد كرس الدستور سمو حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليًا، وحظر التعذيب والاعتقال التعسفي، وعزّز ضمانات المحاكمة العادلة، وربط المسؤولية بالمحاسبة، بما يجعل مبدأ عدم التكرار ركيزة بنيوية في معمار الدولة الحديثة. كما تعزّز هذا المسار بتقوية مؤسسات الحكامة وحقوق الإنسان، وتوسيع آليات الشفافية والولوج إلى المعلومة، بما ساهم في ترسيخ ثقافة الحقوق داخل الفضاء العمومي والمؤسساتي.
وفي المجال الأمني، اعتمد المغرب إصلاحات تدريجية شجاعة أعادت تأطير عقيدة الأمن ضمن منطق دولة القانون، مع تعزيز الرقابة القضائية والضمانات القانونية، وإدماج مبادئ حقوق الإنسان في التكوين والممارسة. وقد شكّلت هذه الإصلاحات أحد التعبيرات العملية عن ضمانات عدم التكرار، دون اللجوء إلى مناهج تفكيكية أو مقاربات صدامية، بما حافظ ،بذكاء، على توازن دقيق بين متطلبات الأمن واحترام الحقوق.
أما الذاكرة، التي تشكّل أحد أعمدة العدالة الانتقالية، فقد أبانت التجربة ، و تحارب عالمبك رائدة، أن الاعتراف بالحقيقة، رغم مركزيته، لا يكفي وحده لبناء ذاكرة ديمقراطية مستقرة. فالذاكرة، إذا لم تُدرج قطعا ضمن منطق التراكم الديمقراطي، قد تتحول إلى مجال للتجاذب أو التوظيف. ومن هنا تبرز الحاجة إلى الانتقال من التعامل مع الذاكرة كملف حقوقي إلى حكامتها كسياسة عمومية مستدامة، قائمة على التربية، والثقافة، والإعلام العمومي، وقادرة على استيعاب التعدد دون المساس بالسلم المجتمعي أو الثقة المؤسساتية.
وفي ما يتعلق بالملفات الحقوقية العالقة راهنا، وهي مثلها مثل الملفات العالقة في كبريات الديمقراطية في العالم، فإن استمرار بعض المطالب أو النقاشات لا يُعد في حد ذاته مؤشرًا على فشل العدالة الانتقالية، بل يعكس طبيعتها كمنهجية دولة ممتدة لمعالجة التوترات والاختلالات داخل الإطار المؤسساتي العادل. فالدولة التي تبنّت العدالة الانتقالية كمرجعية، مدعوة إلى إدماج هذه القضايا ضمن آلياتها العادية: القضاء، ومؤسسات الحكامة، وسياسات الإصلاح، بدل العودة إلى منطق الآليات الاستثنائية التي قد تُفرغ هذا المسار من بعده البنيوي.
وفي هذا السياق الأوسع، لا يمكن فصل مسار العدالة الانتقالية وبناء السلم الداخلي عن التحولات التي يشهدها المحيط الإقليمي، ولا عن ما أُقرّ له دوليًا مؤخرًا من جدية ومصداقية متنامية للمقترح المغربي للحكم الذاتي كإطار سياسي واقعي وقابل للتطبيق لتسوية نزاع الصحراء. فالدينامية الدولية المحيطة بهذا المقترح تندرج في منطق يلتقي جوهريًا مع فلسفة العدالة الانتقالية، القائمة على تجاوز منطق الصراع، وتغليب الحلول السلمية، وبناء الثقة في إطار الاستقرار المؤسساتي واحترام الحقوق.
إن مقاربة قضية الصحراء المغربية من زاوية سياسية تنموية قائمة على الحكم الذاتي، في إطار السيادة والوحدة الترابية، تعكس انتقال الدولة من منطق التدبير الأمني للنزاعات إلى منطق المعالجة السياسية والمؤسساتية المستدامة. وهو ما ينسجم مع روح العدالة الانتقالية باعتبارها منهجًا لإدارة التعدد والاختلاف داخل الدولة الواحدة، وتحويل النزاعات الممتدة إلى فرص لتعزيز الاندماج المجالي والحقوقي وبناء السلم.
بهذا الأفق الشامل، تبرز العدالة الانتقالية في المغرب لا كمجرد استجابة لمرحلة من الماضي، بل كاختيار سيادي إصلاحي، ومنهجية دولة مفتوحة على التراكم والتصحيح، وقادرة على التفاعل مع التحديات الداخلية والإقليمية في آن واحد. فهي إطار يُمكّن من تحويل الذاكرة إلى رافعة للسلم، والمؤسسات إلى ضمانة للاستقرار، والحقوق إلى أساس للثقة بين الدولة والمجتمع.
بهذا الأفق الشامل، تبرز العدالة الانتقالية في المغرب لا كمجرد استجابة لمرحلة من الماضي، بل كاختيار سيادي إصلاحي، ومنهجية دولة مفتوحة على التراكم والتصحيح، وقادرة على التفاعل مع التحديات الداخلية والإقليمية في آن واحد. فهي إطار يُمكّن من تحويل الذاكرة إلى رافعة للسلم، والمؤسسات إلى ضمانة للاستقرار، والحقوق إلى أساس للثقة بين الدولة والمجتمع.
ومن هذا المنظور، يتكامل مسار العدالة الانتقالية مع الرهانات الكبرى التي تواجهها الدولة المغربية، وفي مقدمتها تعزيز وحدتها الترابية، وترسيخ السلم، وتثبيت موقعها كفاعل مسؤول في النقاش الدولي حول الذاكرة والعدالة والديمقراطية. فلا تعارض بين الاستقرار والإصلاح، ولا بين السيادة والحقوق، بل إن التجربة المغربية تُظهر أن البناء المتدرج لدولة القانون هو الشرط الأساس لأي مستقبل سياسي مستدام.
عبد السلام بوطيب، رئيس مركز الذاكرة المشتركة من أجل الديمقراطية
عبد السلام بوطيب، رئيس مركز الذاكرة المشتركة من أجل الديمقراطية