الجمعة 29 مارس 2024
فن وثقافة

حسن برما: لن تموت الحاجة إلى الشعر.. وفي زمن كورونا لم أخط سطرا شعريا عن الوباء

حسن برما: لن تموت الحاجة إلى الشعر.. وفي زمن كورونا لم أخط سطرا شعريا عن الوباء حسن برما
حسن برما، أديب مغربي، قاص وشاعر، ولد سنة 1958 بالحي المحمدي بالدارالبيضاء، حاصل على الإجازة في اللغة العربية وآدابها بكلية الآداب ــ الرباط، عمل 13 سنة أستاذا للغة العربية في الثانوي، و04 سنوات حارسا عاما للخارجية، و14 مديرا تربويا بثانوية ابن عبدون بالحي المحمدي، كان عضوا في اتحاد كتاب المغرب منذ 1992 وانسحب منه رفقة مجموعة من الأدباء والأديبات المغاربة احتجاجا على أحوال اتحاد الكتاب  ودخوله إلى ثلاجة التسيير الانفرادي الفاشل. نشر له حتى الآن: ضمير الخائب ــ قصص ــ دار قرطبة للطباعة والنشر ( 1993 )، دفين العتبة ــ رواية ــ جريدة المنظمة ( 2001)، في عين الظلمة ــ قصص ــ مطبعة ليمورية ( 2008 )، صباح الورد والاعتراف ــ شعر ــ مطبعة ليمورية ( 2010 )،  ارتعاشات ترفض التجنيس ــ قصص ــ مطبعة ليمورية ( 2013 )،  شهد النسيان ناداني ــ شعر ــ جامعة المبدعين المغاربة ( 2013 )، حين تكلم البحر ــ قصص ــ دار سليكي أخوين ( 20َ19 )،  سيف الريح ــ شعر ــ دار سليكي أخوين ( 2020 )...وفي لقاء " أنفاس بريس"، معه جاء هذا الحوار.

 بأي معنى يمكن أن يتحدث شاعر وأديب في زمن كورونا؟
في زمن كورونا أو غيره، لا يوجد معنى مرسوم مسبقا للشاعر، هو لا يتحدث،  لا يهتم بحديث الإعلام، لا يطارد اليومي الزائل، بل يَسْري مع لحظات الإشراق، يسافر للمماليك المجهولة، عساه يعثر على نبتة المفاجئ المذهل، يدمر الجاهز الساكن، يبني عالما دافئا من الصور والأحلام، يعيش زمن الوباء على الدوام، الإبداع معاناة قحة على مستويات عدة، والمحفز المحرض نية مبيتة وإصرار على خلخلة السائد، ويواجه طغيان الأوبئة الحقودة، وعليه .. كل الأزمنة وباء، وكل القصائد ترياق وعلاج يطهر النفس البشرية من أعطابها المتناسلة، هي ليست حديث وسادة لجلب النوم ولا انصياعا لتعليمات هيئة طبية ولن تكون، وكورونا الغامضة ليست مناسبة ملائمة كي ينزل الشعر لحقارة الوحش الجشع ويشغل نفسه بالحديث عن كائن فيروسي مهزوم.
 
هل مازال للشعر صوت في زمن تعالت فيه الأصوات وعم الضجيج؟ً
الشعر حياة، وحده صوت من لا صوت له، قد يكون ضجيجا مشتهي محكوما برؤية فنية جمالية للعالم، والصوت هنا لا يعني الملفوظ المنطوق سجين الراهني العابر، ليس تواصلا مباشرا بين اثنين يملآن الفضاء لغطا وضجيجا، هو اللسان الدائم لحرائق لا تنتهي، حين تصمت كل الكائنات وتلزم راحتها البيولوجية اللازمة، يتكلم الشعر وتنهض القصيدة كي تلملم شتات الفوضى الواقعية وتستلهم من لهاث الكائن نحو ضمان قوته اسمنت بناء خلاق يسخر من بلادة ضجيج الفاقد للمعنى والهوية.

  ما أقرب الأبواب الذي تفتحه عليك القصيدة؟ أباب الأمل أم باب الألم؟
باب القصيدة مفتوح على المجهول دائما، ذاك المجهول المعلوم في الآن، وإلا لما كانت الحاجة للكتابة على وجه التعميم، نحضن القصيدة ونحن في قمة الفرح أو اليأس، في حالة الرضى أو الغضب، الأمر سيان، تولد القصيدة فجأة أو عن ترصد وسبق إصرار، يكون المخاض وصعوبات المعاناة والتشكل بالكلمات، وبالتأكيد لن يلج المولود سوى من باب الأمل والتفاؤل والاعتراف باحتمال الحياة في عالم مغاير لا ألم فيه، مطلب صعب التحقيق يقترب من المستحيل لكنها لعنة الشعر الجميلة تتحكم في الشاعر وترغمه على حمل صخرة سيزيف في أفق الخروج من منفى الخبث والجشع ونزعات الافتراس الذئبية لدى الكائن الضاحك الباكي والاحتماء بملاذ آمن يحفظ له آدميته ويهديه إنسانيته المفتقدة .. أقرب الأبواب إذن هو باب الأمل مع بوح صادق ومتعة راقية تمنحها لنا القصيدة بكل حب وسخاء . 
 
 هل زمن كورونا يمكنه أن يكون ملهما في نظم الشعر أو في كتابة القصة/ الرواية ؟ ما الأقرب إلى وجهة نظرك؟
 في علاقتي بالكتابة، لا أفاضل بين الأجناس الأدبية، قد أجدني بسرعة ودون تردد في قصيدة شعر أحدس فنيا أنها القادرة على إشباع رغبتي في الكتابة من منطلق أن الفكرة التي دفعتني للكتابة لا تطيق التخندق في جنس يفرض علي احترام تقنيات السرد القصصي أو الروائي اللاهث خلف حدث واقعي له بداية ونهاية وشخوص تشارك في بنائه وتتحرك في عالمه، في الشعر أجدني طفلا بريئا يسلم نفسه للحلمي المدهش المفاجئ اللامتوقع، تحفزني فكرة، فأحضن القصيدة بحنين عارم ويقين بكونها الوحيدة التي تمنحني الرضى بالكتابة كآلية لتجاوز الواقع بخيباته ومظاهر التخلف فيه، يكفيني أن أعثر في الكثير من الأحيان على الشرارة الأولى وأدعها تتمخض حتى ألبسها الوزن والإيقاع الذي أشاء لينطلق سيل البوح والاعتراف ويحاول تحريض المتلقي على الغوص في عمق اللحظة الشعرية كما أحسستها وتصورتها دون نسيان الاهتمام بالجانب الجمالي وتوفير أسس المتعة الفنية، وقد أكون من منطلق مرجعياتي الفنية وأهداف  أرسمها للنص واعتبارا لمادة خام تتوي وراء فكرته مقتنعا بأن النص القصصي السردي هو الملائم والصالح لتقديم منتوج ينطلق مما تحقق من تراكم في تجربتي المتواضعة وما حققته القصة المغربية من منجز رائد، أفكر في تقديم الإضافة، تكون البداية من فكرة أو حوار عابر أو حدث دال محفز على خلق عالم فني تخييلي يطمح لأن يكون متفردا حتى وهو يخضع لتقنيات القصة المعاصرة .. من خلال كل ما سبق لا أعتقد أني مضطر لاختيار تجنيس محدد يري ملاءمة جنس ادبي مع موضوع أو ظرفية ما، وهو في حالتنا المعاصرة زمن كورونا، كتبت مجموعة مقالات لها علاقة بالوباء ولم أخط سطرا واحدا في الشعر أو القصة مستوحيا تفاصيل الجائحة، وغير خاف أني أنحاز لكتابة الشعر بنفس قصصي وإبداع القصة بنفس شعري لأن مسألة الحدود بين الأجناس الأدبية ليست صارمة وقاهرة لإقامة الحواجز الجمركية فيما يخص عائلة الأدب. 
 
 هل تؤمن بأن الشعر قادر على تغير العالم؟ أو على الأقل يعيد المشاعر الإنسانية بزخمها إلى التداول بين الناس؟
لن أكذب عليك إذا قلت لك أنني لست من أنصار الفن للفن، لكل نشاط إنساني كيفما كانت طبيعته غاية سامية تسعى إلى تحطيم الساكن الميت وتجاوز الكائن والحلم بالممكن، وبالتالي فمطمح الأدب هو إحداث الرجة اللازمة في القناعات والمسلكيات والانتقال إلى عالم منشود تزول منه مظاهر التوحش والطغيان وسلب الكائنات حريتها المفترضة، فعلا يظل مطلب الشعر كما أتصوره هو إحداث الخلخلة اللازمة في اليقينيات السائدة بقوة العادة وسلطات التدجين. 
على وجه التعميم، التواصل غريزة فطرية في الكائن البشري ينطلق مع أول صرخة يطلقها بعد ولادته، وحتى الكائنات الحيوانية والنباتية تحتاج للتواصل بأشكال متعددة كي تنتظم دورة الحياة، أبدع الإنسان اشكالا عديدة كي يربط التواصل والوصل بالآخرين ومع ذاته، كانت الصرخة وبعدها التعبير بالإشارات والملامح وعلامات الفرح والحزن والغضب والرضى، وفي طريق تطوره قلد أصوات الطبيعة والحيوانات فنطق الحروف والآهات، ثم اكتشف الكلمات والجمل وظهرت اللغة كأرقى وسيلة تواصلية للتعبير عن حاجاته ورغباته ومواقفه، من هذا المنطلق، وتأسيسا على هذا التطور، ظل الهاجس عند الإنسان الواعي بهويته الاجتماعية هو تحقيق التواصل بمحيطه، ونوَّع في وسائل التواصل، طور الأساليب وأبدع في طرق إيصال ما يفكر فيه باللغة ووسائل اخرى. فكان الفن/ الشعر ملاذه لإشباع حاجته في ربط صلات الوصل مع الآخر، في الكتابة، ينجح التواصل بالألفاظ من خلال معجم لغوي متواطأ عليه أدبيا، وكما في غيره من وسائل التعبير، لا بد من ضبط مفهوم التواصل واحترام اركان تجيب عن أسئلة كلاسيكية من قبيل: " لماذا نكتب؟ وبماذا نكتب؟ وحول ماذا نكتب؟ وكيف نكتب؟"
قد يكون الشعر، تمثيلا لا حصرا، كمكون لفظي، موحيا ومعبرا على حالات وجودية ونفسية، نتفق أو نختلف حول دلالاته، طبعا لكل هوية رمزيتها المعلومة، لكنها في تركيبتها الفنية أساسا، بناء على الكلمة والبنية والوزن والإيقاع والصورة الشعرية ومكانها ضمن مزيج خلاق من الكلمات والمعاني المنصهرة في حيز مكاني هو القصيدة، محفزا على محاولة فهم المضمون ومطاردة المعنى، فيما يسمى بعملية التأويل المنشودة وعدم الاحتفاء بقراءة وحيدة ميتة، والنتيجة أن الشعر في هذه الحالة يصبح مناسبة للاستمتاع بتشعب أنماط التلقي بالنظر إلى المستوى الثقافي والفكري للمتلقي ومهنية وصنعة شاعر/ مبدع لا يكتفي بإبداع أثر فني تسجيلي يبقى سجين هدف ضيق هو تقليد المرئي دون خلخلة ودون تصرف يتمرد على المرئي الملموس.
هذا الجواب المطول يفيد حاجتنا المستمرة للشعر باعتباره أرقى ما أبدعه الإنسان إلى جانب الفلسفة كمطية للتعبير عن رؤيته للعالم وتضمينه رؤى فكرية واجتماعية وسياسية من خلال بناء لغوي يهدم القار المبتذل وبمضي نحو الممكن والغريب لغاية وحيدة واحدة هي خلق التميز وإدراك أن الحياة لا معنى لها إذا لم تكن القصيدة ذات الجمالية محرضة على التغيير شأنها شان العديد من الفنون، والاحتفاء بالمشاعر الإنسانية النبيلة كالحب والإيمان بقيم الحرية والكرامة والعدل والمساواة.
عود على بدء، فحتى من يدعون كتابة الشعر من أجل الشعر ينطلقون من تصور إيديولوجي جبان يخفي جبنه المرضي بالمبالغة في التعتيم والغموض المجاني وتقديم قصيدة محايدة تكذب على ذاتها وعلى الآخرين، لأنها بمثل تلك الحالة إنما تخدم أجندات تسعى جاهدة لتحييد الشعر وتكريس نظرية في عمقها مؤامرة حقيرة وسلاح خبيث في يد من يحلمون بالاستمرارية والثبات والسكون ليواصلوا حرمان الإنسان من حقوقه وآدميته. 
 
 هل مازال للقصيدة موقع في حياة الناس في زمن الثورة التكنولوجية؟
للجواب عن هذا السؤال ، أطرح عليك بالمقابل سؤالا آخر: هل ما زال الناس في زمن الثورة التكنولوجية  في حاجة إلى تنفس الهواء كي يستمروا في الحياة؟ جوابك عن سؤالي يعطيك جوابي عن سؤالك، الشعر حياة والثورة التكنولوجية  تحصيل لتطور المعارف والعلوم والانجازات، قد تموت الحاجة إلى الكثير من الابتكارات العلمية التقنية ولن تموت الحاجة إلى الشعر والفن عموما، الإنسان ليس آلة ولن يكون، ومن يحلمون بخلق عالم من العبيد والقطعان المنصاعة لمشيئة روبو لا يحس لن ينجحوا في سلب الكائن الإنساني عناده وتمرده في عالم ما بعد كورونا المزعوم ، القصيدة ركام من الأحاسيس والتجارب  والانكسارات والرؤى والانزياحات، وفي غيابها يسود الصمت، يعم الظلام وتختفي الحياة.
      
 في ظل المعايير التي يفرضها النشر الإلكتروني هل يمكن أن نشهد مرحلة جديدة من الرواية التي تنسجم مع هذا الحامل الجديد ويمكنها أن تحقق الانتشار الواسع؟
حين تصير الكتابة لدى المبدع هواء لا يستطيع الحياة بدونه، فإنه لا يهتم كثيرا بالما بعد، الجوهري عنده هو الكتابة والتعامل معها بالجدية اللازمة، أما مسألة النشر فهي مسألة تابعة، يخرج العمل الروائي للقراء ورقا كان أو محمولا على تقنية جديدة لا تضيف إلى قيمته الأدبية شيئا، إذا كان عملا خلاقا يحفز المتلقي على طلب المتعة الفنية والتفاعل معها يظل حيا خالدا، لن يكون محروما من الحب ، وقد تنال رواية ما حقها من التداول والشهرة حتى بعد موت كاتبها، في حين فازت روايات كثير من الروائيين بالحظوة لدى أوساط معينة وانتشرت كالنار في الهشيم بدعم من جهات محسوبة على النقد والإعلام لغرض غير برئ في نفس من يوجهون ويسيطرون على دور النشر ويخططون للتحكم وتدجين ذائقة الناس، صحيح عادة القراءة كما كنا نعرفها في انحسار وتراجع، وزمن طاحونة النشر الإلكتروني يحقق انتشارا واسعا لكنه مخادع، معايير هذا النشر الجديد لا تهم الروائي الأصيل ولا تتحكم في إبداعه، يحضر تأثير هذه الطاحونة الإلكترونية داخل العمل نفسه،  وتصير موضوعا له، وحتى لا ننسى هناك روايات جميلة عن الخيال العلمي لجول فيرن وآخرين لم تنتظر ظهور الحامل التقني الجديد لتغامر في مجال العلوم ومكننة الإنسان، مقاييس ومعايير التقنية خارجة عن العمل الأدبي، استهلاكية متحولة زائلة، والرواية العنيدة تحلم بالخلود. 
 
هل من فكرة عن خارطة قراءاتك في هذه الظرفية التي طغى فيها الوباء وتداعياته على معيش الناس اليومي؟
خلال مرحلة الحجر الصحي المرتبط بالجائحة كتبت مجموعة مقالات ونصوص مفتوحة نشر معظمها بثقافة جريدة " الاتحاد الإشتراكي" وأسبوعية "الوطن ــ الآن" وموقع "أنفاس بريس" و"العلم الثقافي"، أنا كائن ورقي بامتياز، ولا يكفيني النشر في طاحونة مواقع إلكترونية تنسى بسرعة ولا تسمح بتداول واع فعال، كما عملت على مراجعة كتاب قادم تحت عنوان " بعد البوح بشهقة " وهو عبارة عن مجموعة من المقالات في النقد والقصة والشعر ومواضيع الساعة منشورة ضمن حيز أسبوعي بجريدة " الاتحاد" والأسبوعيات المغربية ، زمن كورونا وإن كان زائلا مهما طغى وتجبر منحنا هدية كبرى واعادنا لذواتنا المكسورة ووفر لنا الوقت كي نكتب ونقرأ، وفي هذا الباب قرأت للقاصة الروائية المغربية الصديقة زهرة عز مجموعة قصصية عنوانها " مرآة خبز وقمر" ومجموعتين في القصة القصيرة جدا للصديق العزيز حسن برطال " لا شرقية ولا غربية " و" أحد عشر كوكبا ".
 
 ختاما لكم الكلمة؟
شكرا لك وللمنبر الكريم على هذه الاستضافة الممتعة والتي أتمنى من خلال إجاباتي أن أكون موفقا في تقريب القارئ من الإبداع في زمن كورونا وغيره، كل التوفيق والتألق لك  في مسيرتكم الصحفية.