لا شك في أن المتأمل في ربع قرن من حكم جلالة الملك محمد السادس للمغرب، سيخرج بقناعة راسخة أن عاهل البلاد منذ أن تحمل الأمانة العظمى للمغاربة، فهو قارب إشكالات الدولة مقاربة مندمجة وشاملة، لم تدع مجالا من المجالات إلا وناولته حظه من العناية والاهتمام، سواء في مجال التنمية البشرية أو التنمية الاقتصادية أو ما له صلة بالقضايا الاجتماعية والحقوقية والسياسية وما إلى ذلك؛ لكن قليلا من المتتبعين لهذه الرؤية الملكية العميقة لأوضاع المغرب، هم من يدركون أن جلالة الملك خلال خمس وعشرين سنة من تدبيره للشؤون المغربية على كافة المستويات والأصعدة، استطاع أن يعيد الاعتبار لتاريخ المملكة وذاكرتها الوطنية، وأن يضفي عليه طابعا واقعيا، وأن يجعله قطاعا حيويا لا يقل أهمية عن غيره من القطاعات الأخرى.
إذن، كيف أعاد جلالة الملك الاعتبار لتاريخ المغرب في بعده العام والشامل؟
إن الحديث عن الرؤية الملكية للذاكرة الوطنية وللتاريخ المغربي عموما، يستوجب تحديد مفهوم واضح لمعنى التاريخ وما يعنيه ضمن هذه الرؤية؛ لأن قراءة متأنية وفاحصة للخطابات الملكية وما يدخل في حسابها من رسائل وظهائر ومكاتبات تهم الشأن الداخلي للمملكة وعلاقاتها الخارجية مع معظم البلدان في مختلف القارات، يُستنتج من خلالها أن هناك تجديدا حقيقيا لمفهوم التاريخ، وأن هذا الأخير لم يعد يقتصر على الماضي وما فيه من وقائع وأحداث وانتصارات وانكسارات وما إلى ذلك؛ بل إن التاريخ تحول إلى رافعة للتنمية السياسية والبشرية، وأصبح فضاء واسعا يجمع بين الذاكرة والثقافة والفن، ويحيل على نظام الدولة وعلاقاتها بمحيطها الخارجي، وأنه الوعاء الذي يحتضن كل التحولات العميقة التي أحدثها صاحب الجلالة في مغرب القرن الواحد والعشرين، حتى أنه لا توجد مبادرة من المبادرات الملكية الواعدة، إلا ولها خلفيات تاريخية، تمتح منها مقوماتها، وتؤصل لوجودها وكينونته على أرض الواقع في الحاضر والمستقبل.
ولعل من أهم مظاهر إعادة جلالة الملك الاعتبار للتاريخ المغربي، وإدراجه ضمن رؤى مندمجة فاعلة ومؤثرة، تتسم بالتحيين والواقعية ومواكبة الأحداث الراهنة، مع الحفاظ على كينونته وأصالته وربط حاضره بماضيه؛ نجد ما يلي:
- العناية بالموروث الثقافي المادي واللامادي: بحيث إن الملك دأب على دعم حماية التراث الثقافي المغربي، كما هي الحال مع فن الملحون الأصيل الذي تم إدراجه ضمن التراث الثقافي غير المادي للبشرية، وأصدر تعليماته لتعزيز البحث العلمي في تاريخ التراث المغربي والعمل على نشره وإخراجه إلى حيز الوجود، سيما بعد ما تم إنشاء جملة من المتاحف في عدة مدن مغربية، أهمها متحف محمد السادس للفن الحديث والمعاصر بالرباط، ومتحف في مراكش، وآخر في فاس وأكادير وطرفاية وغيرها من المدن التي تحتضن هذه الأوعية التاريخية بامتياز، أملا في الحفاظ على الهوية الوطنية فنيا وثقافيا وتاريخيا؛
- إعادة تأهيل المدن العتيقة: وهذا من أهم مظاهر رد الاعتبار للتاريخ المغربي؛ لأن تلك المدن بأسوارها وأحيائها ودورها ومساجدها ومختلف مرافقها، إنما هي سجلات تاريخية صامتة، كل جانب من جوانبها يحكي تاريخيا مغربيا أصيلا وصادقا؛ لذلك فإن الملك أولى هذه المدن عناية خاصة إدراكا منه للمورثات التاريخية والحضارية التي تستبطنها، فترأس جلالته عدة مناسبات لتثمين هذه المدن وتأهيلها وإعادة الاعتبار لتاريخها؛ مثل مدن: تطوان، طنجة، سلا، الرباط، مكناس، فاس، مراكش، الصويرة، تارودانت وغيرها من المدن التي استفادت من عمليات الصيانة والترميم والتهيئة الشاملة؛
-دعم الصناعة التقليدية: حيث إن الملك حرص أشد ما يكون على إحياء الصناعة التقليدية، باعتبارها واجهة تاريخية وحضارية للمملكة المغربية، سواء في مجال الألبسة أو في قطاع الخزف أو الصناعة الجلدية وغيرها؛ مما أسهم في الحفاظ على هذه الموروثات وتحسين ظروف المشتغلين في هذا القطاع؛
- تعزيز التعاون الدولي في مجال التراث: دعا الملك إلى التعاون الدولي في مجال حماية التراث الثقافي غير المادي، وأنشأ مركزا وطنيا للتراث غير المادي لتثمين المكتسبات المغربية في هذا المجال؛
- حفظ الأرشيف الوطني أكبر خدمة لتاريخ المغرب: أولى الملك محمد السادس عناية خاصة للأرشيف الوطني من خلال مبادرات ملكية شخصية كان الهدف منها استرجاع المغرب لعدد هائل من الوثائق التاريخية المتنوعة الموجودة لدى دول أجنبية؛ مثل الخزانة الزيدانية التي تعود إلى السلطان السعدي زيدان الناصر بن أحمد المنصور الذهبي، التي كانت تتكون من نحو 5000 مخطوط من أهم المخطوطات العربية والفارسية والتركية واليونانية، والتي استولى عليها قراصنة إسبان في عرض المحيط الأطلسي عام 1612، ونقلوا محتوياتها إلى إسبانيا، وتم إيداعها في خزانة الإسكوريال؛ حيث فشل السلطان السعدي في استرجاعها؛ كما فشل في ذلك السلطان المولى إسماعيل عام 1690 م، بعدما أرسل في شأنها سفيره الوزير محمد بن عبد الوهاب الغساني للتفاوض مع الإسبان حول إطلاق سراح الأسرى المسلمين وعرض تبادل أسرى المسيحيين مقابل استرجاع الخزانة الزيدانية؛ لكن دون جدوى، فبقيت محتوياتها في الديار الإسبانية لما يزيد عن أربعة قرون إلى أن نجح الملك محمد السادس في استرجاع هذا الكنز التاريخي النوعي إلى موطنه الأصلي في 16 يوليو 2013 خلال زيارة رسمية إلى مدريد؛ حيث كان له الفضل في استرجاع المملكة نسخة رقمية من الخزانة الزيدانية على الميكرو فيلم؛ مما أسهم في إعادة الاعتبار للذاكرة والتاريخ الوطنيين؛ كما قام بمبادرات مماثلة فيما يتعلق بالأرشيف المغربي في فرنسا، خاصة بعدما أعطى تعليماته المولوية في شأن تأسيس مؤسسة أرشيف المغرب عام 2007، والتي انطلق العمل بها فعليا في مايو من عام 2011؛ الشيء الذي أعاد الاعتبار فعليا للتاريخ المغربي؛ حيث إن بلادنا توافرت لأول مرة في حياتها السياسية على أرشيف تاريخي منظم في إطار مؤسسة عمومية غاية في الأهمية؛
- دعم الفكر والثقافة ضمن رؤية التنمية: اعتبر عاهل البلاد أن الثقافة ركيزة أساسية للتنمية الوطنية الشاملة، وأكد على ضرورة توفير بنية ملائمة للإنتاج الثقافي والمعرفي، مع إيلاء عناية خاصة للبنية التحتية الخاصة بالثقافة مثل المسارح والمتاحف والمعارض وما إليها؛
- ترسيخ الهوية الوطنية والتعددية الثقافية وإصلاح الحقل الديني: قارب الملك محمد السادس هذه الواجهة التاريخية من خلال ورش رد الاعتبار للثقافة الأمازيغية بحمولاتها التاريخية، معتبرا إياها انفراجا هائلا في تاريخ المغرب الراهن، سيما بعد خطاب أجدير سنة 2001، ودسترة الأمازيغية كلغة رسمية وطنية من خلال دستور عام 2011، واعتماد رأس السنة الأمازيغية عطلة رسمية في المغرب منذ عام 2023؛ كما تم دعم التعددية الثقافية في بلادنا بتشجيع الثقافة الأمازيغية والحسانية واليهودية وغيرها، التي تعكس خصوبة التاريخ المغربي، وما يحمله من قيم للتعايش والتسامح والتساكن والتضامن؛ خاصة بعد الإصلاح العميق الذي أحاط به الحقل الديني من حيث المذهبية والعقيدة الأشعرية، ومحاربة الأفكار المتطرفة؛
- الاستثمار في تاريخ الدبلوماسية والعلاقات الخارجية: وهذا الاستثمار تمثل في جملة من الإجراءات الملكية الفاعلة والمؤثرة في مسار هذه العلاقات، مثل:
- قيام الملك محمد السادس بإعادة المغرب إلى دبلوماسية نشطة وقوية، خصوصا على المستوى الإفريقي؛ حيث استثمر مكانة المغرب التاريخية وثقله الديني لتعزيز علاقاته مع الدول الإفريقية، واستعادة مكانة المغرب المشروعة داخل الاتحاد الإفريقي عام 2017 ودعم دوره الجيو- استراتيجي إقليميا وقاريا ودوليا؛
-الحفاظ على علاقات جيدة مع الدول الكبرى: حرص الملك محمد السادس على أن تبقى علاقات المملكة مع غيرها من البلدان الكبرى علاقة تعاون واحترام متبادل؛ مستفيدا من القوة الاقتصادية والتجارية الصاعدة للمملكة، وارتباط تاريخ المغرب الاستعماري بعلاقات متجددة مع فرنسا وإسبانيا وغيرها، متمسكا بالهوية الوطنية ووحدة التراب الوطني، ما عزز مكانة المملكة على الساحة الدولية؛
- الدور الحاسم والمحوري للملك محمد السادس في حسم ملف الصحراء المغربية دوليا؛ وذلك عبر دبلوماسية نشطة، مكنت من كسب تأييد دولي متزايد لمغربية الصحراء، بعدما نجح جلالته في تحقيق اعترافات دولية واسعة ووازنة، أعقبتها إقامة قنصليات عامة أجنبية في الأقاليم الجنوبية؛ كما كان له الفضل في إقناع الدول التقليدية والصديقة؛ مثل إسبانيا وفرنسا وإنجلترا وألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية وغيرها إلى الاعتراف بمغربية الصحراء وتأييد مقترح الحكم الذاتي المغربي؛
- أسس جلالة الملك لمرحلة جديدة من الشراكات الاستراتيجية، عزز من خلالها المغرب موقعه كقوة ذات تأثير في القارة الإفريقية والعالم العربي وأوروبا وأمريكا وأسيا، جاعلا من التاريخ الوطني منطلقا للوصول إلى تأثير دولي أوسع وتحقيق مصالح استراتيجية مستدامة.
وعموما، فإن الملك محمد السادس ربط التاريخ المغربي العريق بموقع المغرب الاستراتيجي عبر دبلوماسية ملكية قوية ومبادرات عالمية، عزز من خلالها وحدة المغرب وشرعيته الدولية، وطوّر علاقاته الاقتصادية والسياسية بشكل يدعم تاريخ وحاضر ومستقبل المملكة الشريفة.
الدكتور عبد الله استيتو،أستاذ باحث في التاريخ بجامعة ابن زهر
.png)
