الجمعة 19 إبريل 2024
كتاب الرأي

خليل غول: هل يصبح التعليم رقميا؟

خليل غول: هل يصبح التعليم رقميا؟ خليل غول

يعتبر التعليم، من أهم القطاعات التي تأثرت بأزمة كورونا؛ لذلك كان لزاما مواجهة المرحلة، بأقل الأضرار. وعليه اعتمدت السلطات التعليمية المركزية مجموعة تدابير، لإنقاذ السنة الدراسية، وتفادي توسع إصابات الفيروس، تحت يافطة التعليم الرقمي (التعليم عن بعد).

 

أزمة كورونا إذن، جعلت التعليم الرقمي في الواجهة، كخيار استراتيجي لا بديل عنه. رغم غياب العدة الكافية له، وما حصل فيه من ارتباكات، على مستوى التواصل بين مختلف الفاعلين التربويين. يعني أن هذا النموذج، عمل على تحقيق الاستمرارية البيداغوجية، بأشكال متنوعة في سيرورتها ومواقعها  والياتها ومعارفها...

 

هذا الوباء، بفجائيته وشراسته، جعل العالم يعتمد إجراءات احترازية، على مختلف الأصعدة. خصوصا الصحية منها والتعليمية. جعل أيضا، البشر متساوين، من حيث الحذر والتخوف والحجر المنزلي، والتداعيات الصحية والسيكولوجية، وسلطة المؤسسات الاجتماعية. أصبح بموجبه ترقب الواقع اليومي، لمتابعة مستجدات الوباء على مستوى الإصابات، الشفاء، الوفيات. ترقب انفتح أيضا على العالم. وأصبحنا بموجبه نشعر بأننا ننتمي -بالفعل- إلى مجتمع إنساني واحد. سادت فيه قيم الإخاء والتضامن والمساواة، أمام هذا القدر أو المحنة، لا سابق لها...

 

المرحلة طرحت معها إشكالات، على المستوى التعليمي التربوي، وسبل الخروج من نفق الأزمة، لإنقاذ السنة الدراسية. لذلك اعتمدت الوزارة الوصية على إبعاد كل تفكير، في سنة بيضاء؛ اعتبارا للنسبة المتقدمة في إنجاز المقررات، التي تراوحت بين 60 و75%، إلى حدود يوم 16 مارس 2020. (هي نسب تباينت من حيث طبيعة المواد أو الأساتذة أو المؤسسات).

 

إن أزمة وباء كورونا، ستمهد الطريق  للتحول في مسار التعليم والياته. فهل سيكون هو نفسه، بكل مقوماته كما هو عليه، بعد الخروج من المرحلة الوبائية؟ ونفس السؤال  ينسحب على قطاعات أخرى. بمعنى آخر هل كورونا ستجعلنا أمام قطيعة إبستيمولوجية، بين ما قبلها وما بعدها؟

نجد أنفسنا أمام رهانات، يطبعها الاستفهام والتساؤل، لما سيؤول إليه الوضع بعد مرحلة كورونا. ما الذي سوف يتغير، وكيف؟

 

نقر مبدئيا أن التغيير سيطال جوانب لا حصر لها من مكون الدولة، من حيث استراتيجياتها التدبيرية وأنظمة هياكلها وفلسفتها، وعلى المستوى الفردي، الإنسان الفرد من حيث كينونته النفسية والمجتمعية. السوسيو-اقتصادية، والسياسية. قد لا يختلف اثنان، في أن الخروج من باب الأزمة يجب أن يتوجه صوب مداخل العلم من حيث التخطيط والتدبير المحكم، لمختلف المجالات؛ من اجل كسب المناعة، ورهان ركب التنمية الصحيح.

 

إن التعليم الرقمي، سيصبح واقعا. وستفرض كورونا مستقبلا جديدا، سيتم الاندماج فيه قسرا. تماشيا مع متطلبات العصر التقنية حتى لا يتخلف عن الركب. ستهيمن التكنولوجيا على ثقافة التعليم. على كثير من الأشغال، الإدارية، والتربوية. وستحتضنها كل البيوت .

ستكون التكنولوجيا -بهذا المعنى- وفي المستقبل القريب، من المستلزمات الأساسية للتعليم. وستكون آليات التواصل التقني بدائل عن الأدوات التقليدية التي تتأثث بها العملية التعليمية، من: السبورة، الصور والكتاب، ومختلف وسائل الإيضاح... سيحل محلها، الهاتف الذكي والحاسوب والمسطحات (tablettes).

المرحلة إذن، ستتطلب أستاذا ملما، وخبيرا بمجال التكنولوجيا الرقمية. حتى يتسنى له تقديم الدرس بالتقنيات الجديدة. لذلك فتكوين الأستاذ وتأهيله، مسألة لا مناص منها.. هاته الديباجة للأستاذ، لا تنسينا النظر الى التعليم، في كليته بفلسفة جديدة. تعلق الأمر بالمقررات، أو بالمناهج أو بمراجعة المواثيق والمخططات السابقة، لتحيينها في اتجاه ينسجم مع المد التكنولوجي الرقمي والعلمي. عملية التحديث هاته يجب أن تتم وفق رؤية شمولية، وطنية؛ تعمل فيها الوزارة على مأسسة حوار جاد مع شركائها، من جمعيات أمهات وآباء وأولياء التلاميذ ونقابات، ومسؤولي القطاع والمتخصصين وجمعيات المجتمع المدني. ومع كل من لهم علاقة بالتعليم كهيئات... لبلورة رؤية وطنية حديثة، واضحة، جامعة ومسؤولة؛ في انسجام مع ما يتطلبه المجال التكنولوجي الرقمي المعاصر وآفاق التنمية المنشودة. لا بد وأن تأخذ بعين الاعتبار، ومن أجل نجاح هذا المشروع، الاشتغال على إقرار تكافؤ الفرص، بين كل المتعلمين،  حتى لا يصبح الأمر عائقا، أمام هذا المسار الجديد. إلى جانب الاقتناع بان التعليم، رافعة أساسية مستقبلية، للتنمية، ولا قيمة تسعيرية أو نفقات دون مردودية .

 

ما من شك، أن جل دول العالم تتسابق بقوة، للخروج من أزمة الوباء ومخلفاته. أو على الأقل الخروج بأقل الأضرار. مستفيدة من ثغراتها وأخطائها، لتؤسس أو تغني صرح مسارها، الذي لا خيار لها عنه، في اتجاه العلم والتكنولوجيا. على الرغم مما ستعرفه جل الدول من الكساد العابر، مباشرة بعد انتهاء الأزمة .

 

إن التحول في أساليب ومضامين التعليم، هو بداية للمستقبل القريب، لما بعد كورونا. الأمر الذي ستنهجه جل دول المعمور. إذ سيفرض نفسه بإلحاح، وسيتصدر المشهد المجتمعي. إن فيروس كورونا لن يترك العالم كما كان عليه من قبل. وبالتالي فالأمن القومي للدول، سيتمثل في التسلح بالتكنولوجيا الرقمية والاستثمار فيها كطوق للنجاة من التخلف أو التقهقر الحضاري. وستصبح التكنولوجيا ضرورة وقاعدة لكل الأفراد، ولا مسألة استثنائية.

 

المرحلة تتطلب تأهيلا واضحا وجامعا، من حيث الاستراتيجيات والآفاق. إن ما يحدث الآن، لابد وأن يترك صداه وبصماته العميقة على مسار الفكر، على مراجعة مجموعة من مفاهيمه ومسلماته. فلا ننكر بأن الأزمة/ الصدمة، ضربت كيان الكوكب من أقصاه إلى أقصاه. هزمتنا في زماننا ومكاننا، في مشاريعنا وطموحنا وتواصلنا، ومعيشنا اليومي التقليدي.

 

إن استقبال عالم أفضل يبقى طموح مشروع، أمام كتامة الحاضر وماسيه وأحزانه، وكل صوره الكابوسية المفزعة. تجربة سيسجلها التاريخ، بأنها باغتت الإنسان وهزمته. أرغمته على المكوث في قفص البيت، كطير مكسور الأجنحة. تجربة أربكت دواليب كل الدول والمجتمعات. بما فيها الدول العظمى. إنها صدمة كوكبية، سقطت وانتشرت بسرعة مهولة .

 

بعد الانفراج، فالتعليم لا يجب أن يعود إلى المرحلة الما قبل كورونية. وعليه فإننا نعتبر أن الأزمة الوبائية، قد جعلتنا امام فرصة وحافز ينشد التغير، لبلورة ثقافة تعليمية تحديثية، مستنيرة. تروم تكوين واعداد المواطن العالمي الرقمي. المنفتح على عالم التكنولوجيا. والمتواصل مع كل زوايا الإنسان في هذا المعمور .

 

المسألة إذن، هي إقرار بعولمة تكنولوجية. لابد من فتح مغالقها، وانخراط فيها وبها. بغية تشكيل أفضل للتفاعل البين - إنساني، مع كل الثقافات والحضارات البشرية. إن مسلك التكنولوجيا الرقمية، لا بد وان يتسيد في المنظومة التعليمية، التي كشفت الأزمة الكورونية خللها، وغياب مناعتها، وضعفها الذي لم يرق إلى التجاوب المنشود. ولكن هناك اعتبارات موضوعية، تبرر فجائية الصدمة، تتمثل في قوتها ومباغتتها.

 

هي، تحولات مفصلية تأثرت بأزمة الوباء. حاولت الدولة أن تدبرها بصرامة واستباقية. وقد يكون التعليم أخذ نصيبه الأوفر من هذا الاهتمام. بعد أنشاء منصات تفاعلية، تلقى فيها الدروس والمحاضرات الجامعية. حرصا على إنقاذ السنة التعليمية. ولعل ذلك ما حصل  بعد مجموعة تدخلات وإجراءات من طرف الوزرة الوصية لكن بقي الهاجس الأكبر، هاجس الامتحانات، الذي ظل يؤرق الوزارة ومعها الإباء والتلاميذ، بل والأطقم الإدارية والتربوية. فالوزارة في بداية الأمر لم تكن لتستند على رؤى شمولية، واضحة وإجرائية. لتخرج فيما بعد، بقرارات تؤكد من خلالها، عملها على إنقاذ السنة وإجراء الامتحانات، آخذة بعين الاعتبار التدابير، التي تتجنب وقوع الإصابات بين جموع التلاميذ كي لا تظهر حالات جديدة للوباء.

 

إن ما تم إقراره، هو التأكيد على امتحاني الجهوي والبكالوريا. في مواقيت خارج زمانهما المعتادين. مع الحرص على احترام مسافة التباعد القانونية، بين التلاميذ، داخل الحجرات. مع الحرص على تنظيم إجراءات الدخول والخروج. وتفادي أي اكتظاظ. إلى جانب تعقيم كل فضاءات المؤسسة...  والتفويض، لمجالس الأقسام، صلاحية الحسم، في عمليات النجاح، أو الرسوب، بالنسبة للمستويات والأسلاك المتبقية. اعتمادا على نقط المراقبة المستمرة.

 

تكون الوزارة الوصية بهذه الإجراءات، قد وضعت استراتيجية تدبيرية للامتحانات، خارج المقرر الدراسي للسنة. لذلك فهي الآن تجد نفسها ملزمة بتحيين هذا المقرر، وإصدار مقرر وزاري تعديلي لتنظيم ما تبقى من السنة الدراسية من حيث مواعيد الامتحانات والمداولات وما يرتبط بهما.

 

هذه إذن، إجراءات جزئية مقتضبة، لإنقاذ السنة الدراسية. لكن، لابد من التفكير، من الآن لوضع خطة طريق، صوب المستقبل التعليمي، لتكييفه مع واقع الحال الذي ستفرضه مرحلة ما بعد الخروج من الأزمة، استعدادا لأي طارئ مباغت. فهذا الوباء يمكن أن يحضر من جديد، أو يظهر فيروس آخر مشابه، أقل أو أكثر فتكا، أو قد يقع جراء خطأ في تسرب اشعاعات نووية أو تسربات جرثومية خطيرة لا قدر الله .

 

يبدو الأمر الآن مناسبا وأكثر فاعلية من أي وقت مضى،  لوضع قطيعة ابستمولوجية مع التعليم التقليدي، الذي ظل في مجمله يستند على الحفظ والتلقين، والسبورة والكتاب ووسائل الإيضاح الكلاسيكية. قطيعة تدريجية -طبعا- في اتجاه بلورة تعليم تكنولوجي رقمي، راق، يتوق المستقبل وهو يتسلح بالعلم والحداثة، يتجاوز المعارف الماضوية العقيمة، التي لا تنسجم مع العقل أو المنطق، أو القيم الأخلاقية، في بعدها الإنساني الكوني .

 

إن إمكانية اعتماد التعليم الرقمي، تمليه الضرورة البراغماتية.. والدولة في هذا الصدد لابد، من أن تتجه في هذا المنحى خاصة أمام ما لقيته من تشجيعات، من طرف الاتحاد الأوروبي، عبر المنحة التي قدمها لدعم جهودها من ناحية. ولتدبير الازمة من جانب آخر. ولتيسير الولوج للتعليم عن بعد. وبذلك يكون الاتحاد الأوروبي، قد التزم منذ 27 مارس 2020 بتخصيص ميزانية هامة لفائدة المغرب، لدعم قطاع التربية والتكوين المهني، واحتياجاته المستعجلة، لمواجهة وباء كورونا. لذلك فما هو مطلوب من الوزارة الوصية، هو العمل على معالجة الاختلالات، التي ظلت تنخر المنظومة التعليمية، من تسرب وهدر واكتظاظ، وكثافة المقررات، وكثرة المواد، ونوعية المضامين، الالتحاق المتأخر للتلاميذ في بداية السنة الدراسية، الانصراف قبل بداية العطلة، عقم بعد المواد ومضامينها الماضوية المتحجرة. غياب سياسية واضحة، تربط التعليم بالتنمية؛ أيضا التفاوت الصارخ من حيث معامل المواد، بين ما هي أساسية وغير أساسية. غلبة الطابع النظري، سيادة التلقين والحفظ، دون التحليل أو التركيب أو الاستدلال أو المحاجة والاشكلة...

 

لا بد من مراعاة تواجد التلميذ بالمؤسسة وتقدير المرحلة التي يجتازها. إنه لا يشكل فاعلا تربويا فحسب، بقدر ما ينسج فيها علاقات وجدانية واجتماعية. وهو أمر لابد من صقله، وتأطير تواصله مع أقرانه. وتوجهه نحو تنمية مهاراته الاجتماعية والأخلاقية والإنسانية...

 

إن عدم التوجه نحو تحديث التعليم، في اتجاه الرقمنة، يسجل بكل تأكيد، اختلالات على مستوى التنمية المستقبلية، التي ستجد نفسها غير مؤهلة للانسجام مع متطلبات مجتمع الغد القريب. وهو ما ستكون له حتما انعكاسات سلبية، على الحاضر والمستقبل.

 

إن إقرار التعليم الرقمي تفرضه المرحلة. لذلك فلا بد من تأطيره وتنزيله قبل أن يفوت الركب. وعليه لا بد من تأهيل شمولي للمنظومة التعليمية ومكوناتها النظرية والتطبيقية، وكل فاعليها التربويين، ليركب تعليمنا قارب المستقبل والنجاة بأمان وثبات. وبالتالي سيصمد، أمام كل العواصف الهوجاء. وسيجعلنا أقوى، وفي قلب اللحظة الإيجابية، وما تتطلبه من مواكبة وانسجام.

 

إذا كان التعليم الرقمي وسيلة حداثية، فلا بد بأن يمتزج بغايات ومضامين علمية وفلسفية، موازية له، تجعل التلميذ المغربي، ومعه المجتمع في قلب العالم المعاصر، وما يفرضه من قيم كونية إنسانية حضارية، توجب الانخراط، لبناء حضارة إنسانية مشتركة.

 

- خليل غول، باحث تربوي