الجمعة 29 مارس 2024
كتاب الرأي

رضا الفلاح: تركيا.. رائحة غاز شرق المتوسط والأطماع تجاه ليبيا

رضا الفلاح: تركيا.. رائحة غاز شرق المتوسط والأطماع تجاه ليبيا رضا الفلاح

من أجل فهم التحرك التركي اتجاه ليبيا وقرار إرسال قواتها أو مرتزقتها إلى ساحة المعركة ودعم حكومة الوفاق الوطني، يجب في البداية القيام بقراءة الوضع على أرض الميدان وقياس مدى الشرعية التي يتمتع بها كل طرف في النزاع. الحكومة التي يرأسها فايز السراج تملك شرعية أممية لكنها بعيدة كل البعد عن الوفاق وعن الشرعية الشعبية ولا تحظى بدعم دولي واسع وفعلي باستثناء الأموال التي تتلقاها من قطر والعتاد العسكري من تركيا. على الساحة، لا تسيطر حكومة الوفاق سوى على مدن طرابلس ومصراتة في حين يبسط الجيش الوطني الليبي بقيادة الجنرال حفتر سيطرته على معظم التراب الليبي بمساعدة فرق وميليشيات مسلحة كما يلقى مساندة من قبل قبائل الشرق الليبي وتدعمه وتموله قوى أجنبية وفي مقدمتها روسيا والإمارات العربية المتحدة والسعودية ومصر.

 

تركيا تعتبر أن لديها مصالح في ليبيا وتطمح إلى فرض الأمر الواقع بهذا التدخل المباشر لصالح أحد أطراف النزاع. التفسيرات التي قد تقربنا من فهم التحرك التركي تتوزع على عدة مستويات:

 

- على المستوى الجيواقتصادي، يحتدم الصراع بين دول شرق المتوسط بشأن استغلال الاكتشافات الهائلة للغاز الطبيعي، وتتطلع تركيا إلى بسط هيمنتها على منطقة شرق المتوسط عن طريق اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع حكومة السراج مع العلم أن هذا الاتفاق يتعارض مع مقتضيات القانون الدولي للبحار بالإضافة إلى أن تنفيذه الفعلي محفوف بالمخاطر لأنه يضع تركيا في مواجهة مباشرة مع كل دول المنطقة. ويحق التساؤل هنا إن كانت تركيا تغامر بانتهاج سياسة القوة الخشنة وبالمراهنة على حكومة الوفاق الوطني الليبية. لكن من جهة أخرى، فهل كان أمام تركيا خيار آخر خاصة بعد استبعادها من منتدى غاز شرق المتوسط الذي أسسته اليونان وقبرص ومصر وإسرائيل، وفي سياق الاتفاق على إنشاء أنبوب للغاز الطبيعي EastMed Pipeline والذي يصل اليونان بالاتحاد الأوروبي عبر قبرص وإيطاليا.

 

- على الصعيد السياسي، فالاستراتيجية التركية هنا واضحة وتعتمد على كل الوسائل العسكرية من نقل للسلاح وتزويد الميليشيات المسلحة التي تواجه قوات الجنرال حفتر والجماعات التي تقاتل إلى جانبه بالعتاد الحربي وإرسال شتى أنواع المرتزقة إلى ليبيا. تأمل تركيا من خلال هذا النهج العنيف، وهي تدري حتما استحالة الحسم العسكري، إلى التموقع كلاعب أساسي في المسار السياسي الأممي لحل النزاع من أجل الحفاظ على مصالحها في مرحلة ما بعد تدمير ليبيا.

 

إن المصالح التركية في ليبيا تندرج بشكل فج في خانة الأطماع الخارجية التي لا يمكنها الاختباء وراء مبادئ إنسانية أو تسويغها وفقا لرواية الشرعية الدولية، وهي بالتالي تنضبط بشكل صريح ببراغماتية استعراض القوة. وتشكل الثروات النفطية الليبية محط أطماع تركيا نظرا للعجز التجاري الهيكلي الذي تعانيه تركيا جراء التبعية الطاقية، و نظرا لحاجيات الاقتصاد التركي إلى البترول الليبي بحكم جودته العالية وضعف كلفة استغلاله.

 

إن خيار التدخل العسكري التركي في ليبيا هو استمرار لسياسة تدخلية سابقة بدعم مالي قوي من قطر ويؤشر على دخول حرب الوكالة بليبيا إلى مرحلة اقتتال أهلي تغذيه ميليشيات المرتزقة ومقاولات الحرب الخاصة من كل جانب. من هذا المنطلق، يمكننا اعتبار التحرك التركي بمثابة خطوة محسوبة من أجل فرض شروطها وتحقيق مكاسبها من خلال التسوية السياسية التي ستتلو مرحلة الاقتتال الداخلي. ومن المؤكد أنها تدري مسبقا أن الطرف الذي تراهن عليه ضعيف ولن يقوى على تحقيق انتصارات ميدانية، لكنها لا تريد أن تجد نفسها خارج دائرة المساومات والصفقات وتوزيع الغنائم بعد أن اتضحت قدرة الجيش الليبي ومناصريه على حسم المعركة ودخول طرابلس ومصراتة. يبدو أن الأهم بالنسبة لتركيا ليس هو تحقيق نصر عسكري يبقى شبه مستحيل في كل الأحوال، وإنما هو التموقع على مائدة تقسيم الكعكة الليبية من امتيازات الاستفادة من النفط الليبي، ومن عقود إعادة الإعمار خاصة في سياق تداعيات الأزمة الاقتصادية وانخفاض سعر العملة، وتراجع أرباح الشركات التركية.

 

إن تصويت البرلمان التركي على إرسال قوات عسكرية إلى ليبيا هو تحصيل حاصل وقد جاء فقط للعب دور غطاء  الشرعنة الداخلية لقرار تنفيذي نابع من المؤسسة العسكرية ومن رئاسة تركيا، وفي نفس الوقت لحشد إجماع وطني لصالح التوجهات القومية لحزب العدالة والتنمية.

 

ومما عجل باتخاذ هذا القرار عدم معارضته من قبل أمريكا التي تنهج سياسة الانسحاب من البؤر الساخنة في المنطقة وتفضل بدل ذلك دفع القوى الإقليمية إلى استنزاف طاقاتها في حروب داخلية طالما تمسك بالأوراق الضاغطة وتستطيع استعمالها متى وكيف شاءت. ومما لا شك فيه أن تركيا توصلت إلى تفاهم تكتيكي مع روسيا من أجل تجنب الصدام المباشر على الأرض أو السماء الليبية، علما أن ردة فعل روسيا كانت محتشمة وكأنها كانت تتوقع التحرك التركي، وهذا ما يرجح فرضية التفاهم الروسي التركي بالرغم من دعمهما لأطراف متصارعة. وما يشجع تركيا على تنفيذ مخططها هو أيضا الضعف والانقسام العربي والمغاربي، وهذا ما جعل الرئيس التركي يتوجه إلى تونس ويدعوها هي والجزائر إلى اجتماع برلين الأممي المخصص للشأن الليبي وكأنه متيقن من دعم البلدين لمغامرته الليبية. هذه الزيارة والإعلان المرافق لها وبعض التفاصيل الأخرى تكشف عن العقلية العثمانية الجديدة التي قد تصطدم بتعقيدات المجال الليبي، وبخطط الدول الأكثر تضررا من التحرك التركي وعلى رأسها روسيا ومصر واليونان والإمارات.

 

إثر هذه التطورات، يبدو الوضع في ليبيا مفتوحا على أسوأ سيناريوهات الحرب الأهلية الشاملة مع ما قد ينجم عنها من ارتفاع كبير في عدد الضحايا المدنيين واللاجئين والتسبب في نزوح جماعي للسكان. إقليميا، سيقوي هذا الوضع من شبح المخاطر الأمنية الذي يخيم على منطقة المغرب الكبير والصحراء والساحل.