الجمعة 29 مارس 2024
فن وثقافة

أصيلة تطرح سؤال القرن: الديمقراطية المتَّهمة!

أصيلة تطرح سؤال القرن: الديمقراطية المتَّهمة! محمد قواص، وصورة لإحدى جداريات موسم أصيلة الثقافي في دورته الـ41
الديمقراطية تشكو من أزمة تمثيل أو تشكيك في كونها الأداة الصادقة للتعبير عن مزاج الشعوب. باتت عمليات الانتخاب عملية صناعية تنخرط داخلها سلطة المال.

لا تتعب أصيلة من تجديد جلدها. تفجّر المدينة التي تشهد هذه الأيام موسمها الثقافي الدولي الـ41 جدلاً ساخناً حول الديمقراطية في هذا الزمن. وأيا كانت مرامي تنظيم منتدى لنقاش المسألة، فإن الديمقراطية بدت هذه المرة في وضع دفاعي تحتاج لمن يرد عنها آفات العصر ويبرر وجودها ويروّج لضرورة استمرارها. بدا أن الديمقراطية لم تعد قيمة مطلقة لا تقبل نقاشاً، ولم تعد بضاعة كاملة الأوصاف يصعب نقدها، ولم تعد تمثل أعلى مستويات ما أنجزته الإنسانية في علم الحكم وأحوال الحاكمية.

يرعى محمد بن عيسى مواسم أصيلة منذ أكثر من 4 عقود. السياسي، السفير، الوزير، انتشل مدينته الصغيرة من الغرق على سواحل الأطلسي في مطّل غير بعيد عن طنجة الشهيرة. أيقظ الرجل المدينة من سباتها وراح ينفخ فيها روحاً جديدة ما زالت تشكّل فرادة لا تقارن داخل المغرب كما في دول المحيط. ولئن يكمن سرّ ما في كينونة أصيلة ومواسمها وصاحبها، فإن ذلك نتاج عجينة تختلط داخلها سكينة واعية وصخب شديد النضوج.

هنا فقط نعرف لماذا يرعى بن عيسى عملية حساسة تضع الإصبع على جرح الراهن، مسار الديمقراطية ومصيرها. فأين من الممكن في غير أصيلة أن تصبح الديمقراطية “عبئاً”.

“عبء الديمقراطية الثقيل: أين الخلاص؟”. عنوان الندوة التي انعقدت يومي الجمعة والسبت الماضيين يفصح عن متناقضين. الأول أن الديمقراطية باتت عبئا وليست ترياقاً عجائبيا لا منافس له. والثاني أن في السؤال عن “الخلاص” استدراج لفهم الأمر بوجهيه. الخلاص من الديمقراطية والخلاص مما يهدد وجود الديمقراطية.

لم يعد مهماً أن تنشغل الإنسانية بطبائع الحكم وديمقراطيته هناك، المهم أن لا ينفجر هذا البلد حتى لو كان ثمن ذلك غياب كامل للديمقراطية

الديمقراطية متَّهمة. هي التي أتت يوماً بأدولف هتلر زعيماً لألمانيا، وهي تبدو هذه الأيام ساهرة على تشريع إنتاج الكراهية ورعاية رواج ثقافة التمييز وتأهيل فكر العنصرية. الديمقراطية تعاني أزمة وجود في أوروبا. التيارات الشعبوية والمتطرفة تتقدم بخبث، من خلال صناديق الاقتراع، نافخة في إطلالاتها كوابيس قديمة عرفتها بلدان القارة العجوز.

الديمقراطية تشكو من أزمة تمثيل أو تشكيك في كونها الأداة الصادقة للتعبير عن مزاج الشعوب. باتت عمليات الانتخاب عملية صناعية تنخرط داخلها سلطة المال. وباتت صناديق الاقتراع تفصح عن مكنونات لا تعدو كونها ثمار ورش متخصصة لا يهمها استطلاع رغبات المواطنين، بل صناعة هذه الرغبات، وجنيِّها، بصفتها محصولا أكيدا لإنتاج السلطة والحكم هنا وهناك.

متحدثو الندوة جاؤوا من أميركا اللاتينية وأفريقيا وأوروبا وطبعا من مدن العرب ووجهاتهم. في الجعبة سعيٌّ للإجابة على سؤال بن عيسى ومنتداه. وفي الجعبة كمٌّ من المفاصل التي تداهم العقل الجمعي وتستثير تفسيراً لمسارات تهطل من خارج المألوف.

أشعل انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة عام 2016 جدلا لم ينته حول دينامية الديمقراطية وانحرافاتها. حتى مؤسسات استطلاعات الرأي فشلت في توقع فوز الرجل الآتي من عالم العقارات المتباهي بعدم خبرته السياسية وعدم تقلده يوماً لمنصب صغير في مدينة نائية. فشلّت تلك المؤسسات في استشراف هزيمة منافسته هيلاري كلينتون، العريقة في السياسة وداخل الحزب الديمقراطي، والخبيرة في شؤون السلطة وشجون البيت الأبيض حين كانت سيدته عندما كان زوجها، بيل كلينتون سيد المكان.

انتخبت البلاد قبل ذلك باراك أوباما، رئيسا أسود، لولايتين متتاليتين، معلنة بذلك تطور المجتمع ونضجه باتجاه مستويات تتجاوز حقبات سوداء من العنصرية والاستعباد. وانتخبت نفس البلاد رئيسا “شديد البياض” بعد 8 سنوات، على نحو لا يتّسق مع منطق التحولات وطبائعها.

دونالد ترامب انتخب ديمقراطيا، وهو قد ينتخب مجددا ديمقراطيا في الانتخابات الرئاسية المقبلة. غير أن السؤال الحرج يبقى مطروحاً حول ما إذا كان ما زال بالإمكان التعويل على الديمقراطية كسبيل وحيد لإنتاج تمثيل صحيح، أما أنها باتت أداة رخوة من أدوات المال، وصارت أداة طيعة تعيد الأيديولوجيات التي اندثر تداولها إلى الحياة.

لم تشنّ أصيلة حملة على الديمقراطية. لا أحد يتجرأ على الاندفاع بهذا الاتجاه. غير أن في ثنايا القول تسرَّبَ أن الديمقراطية مرتبكة تفشل يوما بعد آخر في ضمان الأمان والرخاء. في ذلك أن العالم خائف وأن آليات الاقتصاد باتت مربكة وأن المنظومة الليبرالية التي لطالما صاحبت الديمقراطية تلهث تعبة متخبطة قليلة الحيلة في التصدي لاستحقاقات هذا العصر.

باتت الديمقراطية وصندوق الاقتراع وحق الانتخاب مفاهيم مسؤولة في جانب كبير عن هذه الفوضى التي تربك النظام الدولي الذي ساد العالم بعد الحرب العالمية الثانية، وذاك الذي رانَهُ بعد اندثار الاتحاد السوفياتي.

الديمقراطية مسؤولة عن “انحراف” بريطانيا في التصويت لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي قبل أشهر من انتخاب ترامب في واشنطن. والديمقراطية مسؤولة عن ذلك الزلزال الوجودي الذي يتهدد الاتحاد الأوروبي على نحو غير مسبوق منذ ولادة الفكرة الأوروبية من خاصرة انتهاء الحرب العالمية الثانية. والديمقراطية هي التي تمنح شرعية أخلاقية ساذجة لكافة الأفكار التي كانت وراء قيام أنظمة النازية والفاشية والتي سبّب صعودها بأكبر الكوارث الإنسانية التي عرفها العالم في التاريخ الحديث.

الديمقراطية تعاني أزمة وجود في أوروبا. التيارات الشعبوية والمتطرفة تتقدم بخبث، من خلال صناديق الاقتراع، نافخة في إطلالاتها كوابيس قديمة عرفتها بلدان القارة العجوز

سمعنا في أصيلة أن الديمقراطية هي بضاعة غربية ليس من الضرورة أن تستهلك في كافة أصقاع الأرض ومن قبل شعوبها. كانت جماعات الإسلام السياسي تعتبر الديمقراطية “بدعة” غربية، وبالتالي هي كفر لا يلتقي مع روحية الإيمان. فهل يلتقي بعض العلمانيين وعتاتهم هذه الأيام مع الإسلامويين على مقت الديمقراطية واعتبارها منتجا لا صالح لنا به؟

 بعضهم في أصيلة قال إن الديمقراطية لم تعد المنتج الغربي الخالص الذي عرفناه أو سعينا للتعرف عليه. باتت التكنولوجيا الحديثة مهيمنة على سوق الاقتراع كما على المشهد الإعلامي برمته. ثبت أن تدخلاً إلكترونيا تنظّمة شركات المعلوماتية المعولمة قادر على صناعة رأي عام يقرر وجهة الاقتراع “السري” في الصناديق. وثبت أن قراصنة روسيا يستطيعون الترويج للمرشح ترامب وتشويه سمعة المرشحة كلينتون. وثبت أن أيادي موسكو تدخلت في استفتاء البريكست ولا شيء يمنعها من التدخل في أي استحقاق اقتراعي في أي دولة في العالم.

لم تعد الديمقراطية الضامن الوحيد للاستقرار والأمن والازدهار. بدأت بعض الأفكار تعتبرها منتجة للعبث والفوضى. لا أحد من منظري الديمقراطية في الغرب يتحدث عن الديمقراطية في الصين. بدا، بخبث، أن غياب الديمقراطية عن الصين ليس شرطاً من شروط الاستقرار في الصين فقط، بل في العالم أجمع. يمسك الحكم في الصين بهذه الدولة العملاقة وفق منظومة تمثيل لا تتسق قواعدها مع تلك التي تنتجها العواصم الغربية الكبرى، ومع ذلك فإنه قليلا ما يهتز قلب لندن وباريس وواشنطن وبرلين لحالة حقوق الإنسان هناك.

لكي يستهلك العالم بضاعة رخيصة تنتجها الصين، وجب السكوت عن الشروط الإنسانية التي تجعل من هذا الإنتاج رخيصا. لم يعد مهماً أن تنشغل الإنسانية بطبائع الحكم وديمقراطيته هناك، المهم أن لا ينفجر هذا البلد حتى لو كان ثمن ذلك غياب كامل للديمقراطية. أصيلة صدحت بصدى أناشيد في منطقتنا باتت تبشر بـ”الاستقرار” كأولوية تسبق كل الأولويات، بما في ذلك “الديمقراطية”.

 

محمد قواص: صحافي وكاتب سياسي لبناني

المصدر: صحيفة العرب