إن مقاربة موضوع الحرارة ومدى تدبير موجة الحرارة، من حقول معرفية وزوايا متعددة يستلزم البحث المعمق، والانفتاح على التجارب الناجحة، كما يستدعي تبني استراتيجيات وخطط التنمية المستدامة بمقاربة تشاركية لتأقلم والتكيف مع المتغيرات المناخية المتسارعة في ظل عالم متفق حول الأضرار ومختلف في طرق المعالجة والمسؤوليات، مما يسائل نجاعة تدخلات النظام العالمي الجديد للتصدي والقدرة على مواجهة هذه التحديات التي تفوق إمكانيات الدول والأفراد.
كيف يمكن للمغرب أن يتعامل مع موجة الحرارة وارتفاعها في المدن المغربية التي يقطنها نحو 12 مليون مغربي، على مستوى نوع البناء في المنازل والشقق والمؤسسات والإدارات وفاتورة استهلاك الطاقة والتشجير وغيره؟ وما هو الجاري به العمل في الدول الأخرى؟
علاقة بالسؤال فالمغرب منخرط دوليا في قمم المناخ والمنتظم الدولي الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، كما قام بمأسسة العديد من الأليات الوطنية للرصد والتتبع الوضعية البيئية والاقتصادية والاجتماعية بالمغرب (المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي).
من جهة أخرى، يسعى إلى بناء استراتيجية وطنية وجهوية لتـأقلم مع التغيرات المناخية هذا على مستوى التفكير والتخطيط، فكل هذا يجعلنا نطرح سؤال ذات أهمية كبرى: هل استطاع المغرب التقدم نحو تحقيق العدالة المناخية؟
أما على مستوى التنزيل ومواجهة الظواهر الطبيعية والمناخية فهناك مجهود يبذل، لكن هل هذا العمل كافي ويناسب حجم التحديات المطروحة بيئيا وايكولوجيا على الدولة؟ أعتقد أن إجابات الدولة ومؤسساتها يكون عن طريق تقييم مدى فعالية السياسات العمومية والاختيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية ، ويحتاج الى بحث معمق ونقاش عمومي شفاف يجيب عن الإشكالات المطروحة ويفتح أفاق لرسم سياسات عمومية مندمجة ومستدامة مستقبلا بمقاربات متعددة.
من بين مظاهر التغيرات المناخية على المستوى الوطني قلة التساقطات المطرية وارتفاع درجة الحرارة، وتأثير ذلك على صحة الانسان المحرك الأساسي للتنمية، إذ تم تسجيل تزايد ضربات الشمس بالنسبة 27% بسبب الحرارة المرتفعة الغير العادية مقارنة بالسنوات الماضية بهذه المناطق حسب تقارير واحصائيات وزارة الصحة والحماية الاجتماعية، حيث باشرت هذه الأخيرة حملة تحسيسية للتوعية بمخاطر تأثير الحرارة على الإنسان، خاصة الرضاع والأطفال والشيوخ والنساء الحوامل في غياب شروط العيش الكريم.
أعتقد أنه ليس الحرارة هي التي تقتل النبات والشجر والانسان وحدها ، ولكن استمرار الحرارة مع الإهمال وعدم اتخاذ الاحتياطات اللازمة هو الذي يقتل النفوس والعزائم في ظل تلكؤ الحكومة على اتخاذ إجراءات التخفيف والتأقلم كدعم فاتورة الكهرباء ودعم القدرة الشرائية وتوفير شروط العيش الكريم من توفير فرص الشغل والعمل بهذه المناطق التي تم تهجيرها بفعل سياسات اللاعدالة المنتهجة لعقود، مما نتج عنه احتقان اجتماعي قد ينذر بالخطر في حالة استمرار تجاهل الحكومة وعدم استغاثة المتضررين ، إذ من حقنا التساؤل عن الانصاف والعدالة المجالية و جبر الضرر ، قبل طرح موضوع العدالة المناخية التي ما زالت بعيدة المنال في ظل التدبير الحكومي الحالي الذي يفتقر في اعتقادي لبوصلة الإستثمار المستدام بشكل عام.
فالتدبير العمومي لقضايا المناخ بالمغرب على المستوى السياسات العمومية يحتاج الى العقلنة والعلم وإرادة سياسية وكفاءات من نوع خاص، لأن تدبير الوضعيات المناخية ليس شيئا ثابتا سهل التعامل معه، فمثلا بناء السدود في ظل ارتفاع الحرارة سيؤذي حتما إلى هدر ميزانية ضخمة دون نتيجة، إذ لم نجد حل لعامل التبخر المرتفع، وبالتالي ينبغي دراسة بيئية وايكولوجية لأي مشروع استثماري بهذه المناطق.
كما نسجل على مستوى هذه المناطق انتشار الزراعات المستنزفة للماء ضدا على العلم والاحصائيات المقلقة للوضعية المائية "البصمة المائية" المهدورة بسبب غياب مراقبة صارمة، ونهج سياسة اللامبالاة، وعدم تقدير خطورة تأثير هذه الزراعات على ما تبقى من الفرشة المائية الجوفية في ظل سنوات الجفاف والحرارة المفرطة على مدار سنوات...
إذا كانت العوامل الطبيعية غير متحكم فيها وعبارة عن تحديات خارجية، فما المقدور عنه من الناحية العملية، فالأمر في إعتقادي يحتاج الى وعي فردي وجماعي لمواجهة التغيرات المناخية، وهذا دور المدرسة والأسر والمجتمع المدني وتنزيل البرامج على المستوى الترابي ما زال ضعيفا (ضعف البنية التحتية، قلة التشجير، عدم مراعاة الخصوصية كالطين في الناء أمام زحف الاسمنت...)، ويحتاج الى رؤية متكاملة مبنية على تشخيص تشاركي وحوار متعدد الأطراف بغية تعبئة كل المتدخلين والفاعلين والشركاء المحليين والدوليين لإنجاح هذه السياسات العمومية على المدى القريب والمتوسط والبعيد.
تحتاج ساكنة هذه المناطق الى برامج الدعم لتأقلم والتكيف، واستثمار هذه الحرارة لإنتاج الطاقة الشمسية، وتقليص نسبة الكربون في الهواء، وترشيد استعمال الماء، ودعم القدرة الشرائية، وتشغيل الشباب ...
لأن بدون التفاتة عاجلة للدولة لهذه المناطق الطاردة للبشر منذ عقود، استفحلت هذه الظاهرة بسبب الهجرة المناخية نحو المناطق الساحلية، وبالتالي مما يهدد استقرار المدن والسلم الاجتماعي إن قدر لله.
أعتقد أن المغرب قادر على مواجهة هذه التحديات المناخية، إذا اتخذ إجراءات استباقية وجعل قضية المناخ أولوية ومدخلا أساسيا وبارومتر لقياس مدى التقدم في التنمية.
إن ارجاع الحياة لهذه المناطق والحركة الاقتصادية والاجتماعية رهين باختيارات الدولة ونظرتها للتنمية بهذه المناطق التي تمتلك مؤهلات كبيرة لم يتم استثمارها على المستوى الترابي بشكل أفضل لإنتاج الثروة، وهذا ما يستلزم التباحث عن أي نموذج تنموي نريد لهذه المناطق من المغرب.؟ ويبقى الرهان الأكبر هو مدى قدرة الدولة تحويل هذه التحديات الى فرص حقيقية لربح رهانات التنمية المستدامة.
كما أنه من غير المعقول أن يستمر التعامل مع هذه المناطق بمنطق المغرب "غير النافع" بل يمكن أن يصير نافعا إذا تغيرت السياسات العمومية التي ينبغي أن تنطلق من الأسفل الى الأعلى، وأن تجعل الانسان والمجال في صلب اهتماماتها التنموية، كما لا ينبغي أن لا يقتصر دور الدولة في المقاربة الأمنية والاطفاء للبؤر التي تشهد توترات اجتماعية وبشكل لحظي وموسمي، بل البناء الاستراتيجي للتنمية بهذه المناطق تحتاج الى اعتماد التوازن، ونهج سياسات عمومية أكثر انصافا ونجاعة لتدارك الخصاص الذي تراك لعقود بهذه المناطق، وأعتقد أن المغرب مطالب بإعادة النظر في سياسته الاجتماعية والاقتصادية والبيئية باستمرار وتكييفها مع الأولويات، لأن محدودية الموارد المالية قد تحد من نجاعتها وفعاليتها، كما ينبغي استلهام التجارب الدولية الناجحة، والانكباب على تقوية قدرات العنصر البشري ومحاربة الفساد، وربط المسؤولية بالمحاسبة لتحسين وضعية المغرب في مؤشر التنمية البشرية.