الأربعاء 24 إبريل 2024
كتاب الرأي

عبد الصمد وسايح: الربيع الأوروبي وخطر التسونامي العربي

عبد الصمد وسايح: الربيع الأوروبي وخطر التسونامي العربي عبد الصمد وسايح

يبدو أن تلك الصورة التي تحاول مجموعة من الدول الأوروبية تسويقها عن واقعها الاجتماعي قد تبخرت، وأن شعارات الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان ليست سوى بطاقات صفراء وحمراء ترفعها في حق الدول التي تسعى إلى استنزاف خيراتها وثرواتها الطبيعية والاستهلاكية، وما القمع والاعتقالات التي مورست في حق المحتجين من اصحاب السترات الصفراء إلا دليل قاطع على ذلك.

أصحاب السترات الصفراء اليوم الذين انطلقوا من فرنسا واسطاعوا نشر فلسفتهم بدول أخرى بالاتحاد الأوروبي كبلجيكا مثلا أبانوا عن حقيقة الواقع الذي تعيشه الطبقة الكادحة والعمال في تلك البلدان التي أسرت عقول شبابنا بوهم اسمه الحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة، وهو في الحقيقة لم يتجاوز تغير في أنواع وجودة مساحيق التجميل التي تستعملها حكوماتهم وآليات التسويق التي تعتمدها.. وعند قراءة بيانات السترات الصفراء وملفهم المطلبي لا تجد فرقا بينه وبين نفس المطالب التي ترفع في بلداننا. الفرق فقط في الطريقة المبتكرة، والتي لم تترك للنقابات أو الأحزاب لعب دور القيادة للمتاجرة فيها واللجوء للعنف المضاد للدفاع عن الملف المطلبي لأنهم واعون بأن الحق ينتزع ولا يمنح.

ومن المرجح حدوث المزيد من الاحتجاجات بدول الاتحاد، لأن ما يحدث اليوم ليس سوى مظهر من مظاهر التغيير العميق الذي سيجري بالقارة الأوروبية، وسيستمر إذا لم يتم تغيير السياسات المالية والاقتصادية الراهنة، والتي تؤثر مباشرة على تنفيد التعاقد الاجتماعي، ومن ثم المس بالاستقرار الذي كانت تنعم به تلك الدول، رغم أنه في كل الحالات لم يكن استقرارا مبنيا على تنمية وتطوير الثروة الداخلية، قدر ما كان استقرارا مبنيا على استغلال ونهب ثروات بلدان (ثرية فقيرة) كانت تقبع تحت رحمة الاحتلال أو الاستعمار في زمن معين إن صح القول، وبقي بها عقد حماية ملغم مع بعض القادة داخل تلك الدول يمهدون لهم طريق الاسترزاق ونهب ثروات شعوبهم.

ويبدو أن النظام المالي الجديد الذي يسعى اصحاب المصالح المعزولين عن واقع الشعوب والمتحكمين في صناعة القرار السياسي، الذي أصبح موجها حسب رغباتهم المالية، سيتسبب لا محالة في وضعية تسيب عالمية يحكمها قانون الغاب وليس قانون الإنسانية، وهو بالطبع ما تلجأ إليه أمريكا في أزماتها الاقتصادية (قانون الانتعاش على حساب الحروب والصراعات الداخلية للبلدان).

فأغلب ما يسمى إصلاحات اقتصادية في أغلب بلدان العالم حتى الأوروبية منها يساهم في زيادة ثراء الفاعلين الاقتصاديين، ويساهم في توسع مشاريعهم ويمتعهم بإعفاءات ضريبية واجتماعية، عكس ما هو منشود من طرف الشعوب، خاصة عندما تربط تلك الإصلاحات وما تحدثه من ثراء فاحش في صفوف مهندسيها، في الوقت الذي تزداد المؤسسات الاجتماعية تدهورا، ويزيد تضييق الخناق على عموم المواطنين، وتضعف قدرتهم الشرائية، وفي الأخير يتم إرغامهم على القبول بالأمر الواقع كما تم التخطيط له من طرف اقلية معزولة تطلق على نفسها "نخبة" لا تؤمن بالبشر وتنفذ في حقه جرائم أكثر من جرائم الحرب، وهي الحرمان من الكرامة والمساواة والعدالة.

الربيع الأوروبي الذي حل في خريف بارد ليس بجديد على شعوب انتزعت حقوقها بالقوة من أنظمتها عبر التاريخ، والزيادة في الضرائب كانت من بين الأسباب التي أسقطت الملكية في فرنسا وحولتها إلى جمهورية، الدرس الذي لم يعه الجيل الجديد من وحوش الاقتصاد الذين يتصارعون ويتسابقون للحلول في المراتب الأولى لترتيب المجلات المتخصصة في المال والأعمال، ولو على حساب استقرار شعوب بلدانهم، لأنهم في الأخير سيستثمرون أينما حلت مصالحهم، وليس مصالح شعوبهم.

درس جديد يلقنه الفرنسيون لشعوب العالم في النضال من أجل الكرامة الإنسانية، ويتحدون به وحشية البنائين الجدد الذين داسوا على مبادئ حقوق الإنسان وتاجروا فيها من أجل رغباتهم ونزواتهم المالية وأحلامهم الشوفينية التي يحاولون بناءها من تلك الحصص الصغيرة التي تساهم بها شعوبهم في صناديق أسست باسم المجتمع لتسيير أموره، لكنها في الأخير تضخ في جيوبهم.

فهل ستستفيد الدول التي هلت عليها رياح الربيع العربي في 2011 من الدرس الأوروبي؟ أم أنها ستنتظر هبوب رياح أعتى من الربيع لتكرر سيناريوهات نحن في غنى عنها، رغم أن حكومات تلك الدول بمقدورها تجاوزها عبر ابتكار صفقة اجتماعية جديدة مع المواطنين عامة، وليس فئة الموظفين فقط، والرضوخ إلى مطالب الشعوب، بدل لعب لعبة القبضة الحديدية التي يسهل تذويبها إذا اشتدت الحرارة.