السبت 27 إبريل 2024
كتاب الرأي

مصطفى المانوزي: كيف سيتحقق البعد السياسي للإصلاح دون استيعاب العدالة الانتقالية ؟

مصطفى المانوزي: كيف سيتحقق البعد السياسي للإصلاح دون استيعاب العدالة الانتقالية ؟

يصعب من الناحية المنهجية مقاربة إصلاح منظومة العدالة من زاوية السياسة والإقتصاد دون استحضار المقاربة السوسيوثقافية ،غير أنه لضرورات تقنية أوجب علينا الموضوع التركيز على المقاربة السياسية على إعتبار أن الوقائع السياسية بحكم تسارعها وكثافتها وتواترها لا تتطلب بالضرورة إعمال المسافة الزمنية من أجل الملاحظة والتقييم والنقد ،بغض الطرف عن كون المقاربة السوسيوثقافية تحتاج الى ذوي الإختصاص والكفاءة في علم الإجتماع بتفرعاته المتخصصة أيضا .

إن التركيز على الخلفية السياسية بالأساس ،يفرضه السياق العام الذي جعل من ورش اصلاح منظومة العدالة من المداخل الأساسية ،خاصة بعد أن حسم دستور فاتح يوليوز مسألة الإقرار بمبدأ فصل السلط واستقلال بعضها عن بعض ،من خلال تمكين "القضاء" من مكانة مؤسساتية بارزة ضمن الهندسة الدستورية ، تجعله يرتب ندا للند مع السلطتين التنفيذية والتشريعية ،مع تسجيل لتحفظ نسبي فيما يخص استقلاله عن المؤسسة الملكية التي تعتبر طرفا أساسيا ومهيمنا في السلطة التنفيذية ،هذا الإشكال الذي ينبغي تعميق النقاش حوله حتى لايشوش على مبدأ الإستقلالية ويؤثر على مصداقية السلطة القضائية في العلاقة مع المحاكمة العادلة ورقابة مشروعية وشرعية تصرفات الإدارة والمؤسسات العمومية ،والتي يقتضي القانون الأسمى بأن جميع المواطنين والمواطنات سواسية أمامه .فالسياق العام ،الذي لايمكن اختزال ملامحه الكبرى فقط فيما سمي بربيع الدمقراطية ،بل لابد من التذكير بأن العشرية والنصف الأخيرة ، في ظل العهد الجديد ،عهد ما بعد سنوات الرصاص ،عرفت حضور مسلسل التسوية السياسية بثقل ملحوظ ،اصطلح عليه –اعلاميا – بمسلسل "عدالة في إطار الإنتقال الدمقراطي " أو أطلقه الحقوقيون –تجاوزا- العدالة الانتقالية على الطريقة المغربية ، رغم أن ما يهم في هذا المسلسل هو مدى تطابق الإجراءات المتخذة والمعمول بها للمعايير الدولية لحقوق الإنسان في تعاملها بالأساس مع تركة انتهاكات الماضي الجسيمة في مجال حقوق الإنسان . لقد جرب المغرب هذه الآليات ضمن المسلسل المذكور في أفق طي صفحة الماضي طيا عادلا ومنصفا ،من زاوية الجنوح الى جبر الأضرار الفردية والجماعية /المناطقية بما مقرون بتشييد نظام دمقراطي ضامن للحقوق والحريات والتنمية العادلة ،بسيادة القانون وبضمانة قضاء نزيه وعادل ومستقل . وقد تشكلت هيأة الانصاف والمصالحة كهيأة للحقيقة ،تولت معاجة ارث سنوات الجمر وفق اجراءات أطرها النظام الأساسي المحدث لها تحت إشراف المجلس الإستشاري لحقوق الإنسان ،عبر آليات تلقي الشهود والبحث والتحقيق ومعاجة المعلومات ومقارنتاه وجلسات الإستماع مع الحفاظ على سرية المداولات .وكل هذا كان بالموازاة مع طموح لدى الضحايا أوذويهم برغبة في بلوغ نتائج مرضية ، تستحضر مبدأ الإنصاف والحقيقة مع مراعاة عدم إفلات الجناة من العقاب ،خاصة الذين لم يتعاونوا في "صياغة الحقيقة غير القضائية ،إشارة الى اشتراط النظام الأساسي لهيأة الانصاف والمصالحة الى منع إثارة المسؤوليات الفردية .ولأن المهم ،في سياق التدرج والاكتساب النسبي للحقوق ،هو ما تمخض عن هذه الهيأة من توصيات ،ذيل بها التقرير النهائي الصادر عنها ،هذه التوصيات التي أقرها الملك وطالب بتفعيلها وأجراتها ضمن خطابه ليوم سادس يناير 2006 ، ولعل محور الإصلاحات السياسية والدستورية والمؤسساتية والتشريعية الذي يؤطر جدولة تنفيذ التوصيات كان واضحا في إعتبار موضوع " تأهيل العدالة وتقوية استقلال " مرتكزا مهما لإقرار ضمانات عدم تكرار ما جرى من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان ، وفي هذا الصدد تقدم المجلس الاستشاري لحقوق الانسان، خلال ولاية (2010)،مذكرة تضمنت مقترحات اعتبرت مؤسسة ومتماشية مع المبادئ الأساسية الدولية بشأن استقلال السلطة القضائية والي تم اعتمادها من قبل الأمم المتحدة السابع لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين ،في ارتباط مع الأهداف المتوخاة من الاصلاح الرامية الى توفر المغرب على جهاز قضائي مستقل متكامل وعلى عدالة قوية ومهابة الجانب وتحظى بثقة المواطنين .

لعله من المفيد جدا التذكير بأنه بورش "اصلاح منظومة العدالة " يمكن اعادة بناء الدولة المغربية والتأسيس لدولة الحق والقانون والمؤسسات ،باعتبار السلطة القضائية هي الرقيب والضامن للتفعيل السليم والمحايد للقانون حماية للحقوق وضمانا للحريات الفردية والأساسية ، فليس غريبا أن تركز عليه هيأة الانصاف والمصالحة وتعبتره مدخلا لأي تطوير واصلاح وتحديث ، فاعتراف الدستور للقضاء بالاستقلال والسلطة استغراقا لاستقلال القضاة ايضا ،نتج عن تحليل عميق وتشخيص للوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي ،وفق ما جاء في تقرير الخمسينية حول التنمية ،والذي للأسف الشديد لم تتم قراءته سياسيا بما يكفي وربطه –تركيبيبا واندماجا – مع التقرير النهائي لهيأة الانصاف والمصالحة ،في سياق ربط النتائج بالمقدمات والأسباب ،هذا التقرير وتقارير وتشخيصات المنظمات الحقوقية المحلية والدولية ،والتي خلصت الى أن البيئة القضائية موبوءة ومخترقة باختلالات هيكلية وأزمات متواصلة ومتصلة ، تبدو جلية من خلال المظاهر التالية :

توظيف القضاء كأداة لتصفية الخصوم والمعارضين السياسيين للنظام وتحويله الى أداة لكبح التغيير واضفاء الشرعية على الانتهاكات الجسيمة لحقوق الأنسان ،واقحام القضاء في تقويض وردع الحريات السياسية المعترف بها قانونيا ؛ وتراخي القضاء في التصدي لظاهرة الإفلات من العقاب ومكافحة الفساد والرشوة ،مما ساعد على شرعنة الانتهاكات الاقتصادية والمالية وعلى ضمورمنظومة القيم الأخلاقية لدى المجتمع الى درجة صار معا التطبيع عاديا مع الفساد الشيء أعاق التنمية ، وظلت المشروعية وسيادة القانون عارية عن حماية القضاء ،وكخلاصة فشل القضاء في المشاركة الفعالة في تطوير بنية الدولة وتحديث المؤسسات وإقامة دولة الحق والقانون وفقا للمعايير الكونية ؛وظل القضاء جهازا وظيفيا مسخرا في يد خصوم التنمية البشرية والدمقراطية .

وعلى سبيل الختم يمكن الجزم بأن وطننا أمام فرصة تاريخية ،اما يكون معها أو لا يكون ، فرصة لمصالحة القضاء مع المجتمع لكي يتصالح هذا الأخير مع ذاته ومع ماضيه ،فقد دأبت الدولة على الجواب على مطالب التنمية ومشاريع التقدم والتحديث بالقمع تسخير القضاء الذي كان يجبر بسبب الهشاشة وعدم الاستقلال عن الإدارة والسلطة العمومية ، ناهيك عن وضعية القضاة ،وهذا الوضع الذي شخصه تقرير الخمسينية حول التنمية في احدى الصفحات الخاصة بالقضاء ،ضمن الفقرة التالية :"إصلاح سنة 1974 قد أضر بالضمانات المخولة للمتقاضين ومس بالحق في المحاكمة العادلة على المستوى الجنائي ، كما أن نقص مستوى كفاءة بعض القضاة والمحامين وكتاب الضبط وتدني وضعيتهم المادية كان من أهم مواطن القصور التي أضرت باستقلالية القضاء ."

هكذا شخص خبراؤنا المغاربة وضعية العدالة في العلاقة مع عوائق التنمية ،باحتشام ودون تعمق ،فيبقى علينا اعادة طرح التساؤل التالي : ماذا لو أعاد سياسيونا قراءة وتحيين التقريرين معا تقرير الخمسينية حول التنمية ومعه التقرير النهائي لهيأة الانصاف والمصالحة بشكل تركيبي ،لعلنا نستنتج أن مصير الوطن رهين بتقوية استقلال السلطة القضائية كضامن أساسي لتفعيل أنظمة الرقابة والمساءلة والمحاسبة والتقويم ،ليصير معه مطلب احداث مجلس الدولة ملحا وضروريا لاستكمال سد الخلل الذي يحصل في ثنايا العلاقة بين السلط وداخل السلط نفسها في اطار تنازع الإختصاص ارتباط بمبدأ استقلال السلطة القضائية ،ليس فقط عن السلطة التنفيذية بجميع مكوناتها ولكن عن كافة السلطات الدستورية والمدنية ، السوسيولوجية والإفتراضية وعلى الخصوص تلك المرتبطة بالمال والاقتصاد والإعلام .