ابتلينا في السنوات الأخيرة بتجرؤ كبير وفاضح على ثوابتنا الدينية المغربية من طرف أذناب الوهابية الذين راحوا يرمون بالتكفير والتبديع كل اختياراتنا المذهبية ويسمون بالتفسيق والمروق كل عاداتنا ومواقفنا وما درج عليه أجدادنا وآباؤنا منذ مئات السنين. ولقد كانت خطتهم مدفوعة الأجر من أسيادهم وهابية البيترودولار مرسومة محكمة تقوم على التدليس، والتلبيس، والتبكيت وقلب الحقائق.
ولعل من الأمور التي يستعمل فيها الوهابية المغالطات والمهاترات لضرب ما يخالفهم، تعويم المفاهيم والمصطلحات وعدم تحري الدقة والضبط العلميين في استعمالها. وحيثما يغيب تحديد المفهوم نسقط في الالتباس والغموض واستثمار ذلك في التبكيت والسفسطة. واليوم أقف على توظيف الالتباس الوهابي لمفهومي العقيدة والمذهب الأشعري ومفهوم التطور بينهما
ولرفع الالتباس لابد من التحديد. فقد يبدو جليا للوهلة الأولى أن مفهوم العقيدة واضح لا يمكن أن يتماهى مع مفهوم المذهب. فالعقيدة هي مجموع الأفكار والتصورات والتمثلات التي نؤمن بها و نعتقدها في وجداننا ويقيننا الإيماني. وبذلك تكون العقيدة مجموع مضامين تم الاعتقاد والجزم بيقينها والإيمان بها وبما يترتب عنها. أما المذهب فهو مجموعة من المضامين تمت صياغتها في نسق متناغم ومنسجم بأصولها وقواعدها وفق منهج معين فحينما تحضر المضامين المنتظمة داخل منظومة متناغمة محكومة بمنهج معين ساعتها يمكننا الحديث عن مذهب. فالفقه مجموعة أحكام لكنها حينما تنتظم داخل نسق محكوم بمنهج معين نقول عنها ساعتها مذهب حنفي، أو مالكي، أو شافعي، أو حنبلي .... فاختلاف المذاهب الفقهية مثلا راجع إلى اختلاف الأحكام والمناهج. وما يقال عن الفقه، يقال عن العقيدة وغيرها. فالعقائد مضامين والذي يضمن لها التناغم داخل منظومة هو طبيعة المنهج المختار فهناك مذهب الخوارج، ومذهب الحشوية، ومذهب الشيعة، ومذهب المعتزلة، ومذهب أهل السنة والجماعة الأشاعرة.......وعلى هذا يتضح أن مصطلح المذهب ليس قدحا أو نقيصة بل هو على العكس من ذلك علامة على نضج معرفي ومنهجي. والمذاهب شأنها شأن كل ما خلق الله خاضعة لقانون التطور والتحرك في الزمان والمكان في التاريخ والجغرافية. فالمذهب قد يبدأ بسيطا ثم يشرع في النمو والتطور بفعل علمائه، على ضوء المستجدات والسياقات، والاختلاط بأجناس وجنسيات مختلفة ، وثقافات متنوعة متعددة، وبفعل النوازل الجديدة والأسئلة المستفزة مما يضطر العلماء إلى الإجابة عنها وتوسيع دائرة الممكن في سياق مضامينها.
فالعقائد الأشعرية هي في أصولها عقائد إيمانية مستمدة من الكتاب والسنة ، تؤكد على التنزيه المطلق لله عن كل شريك أو شبيه له في مخلوقاته والإيمان بالرسل وبالكتب السماوية والقضاء والقدر والجنة والنار. ولقد نهضت العقائد الأشعرية داخل مذهبها وبفضل علمائها ورجالاتها بالدفاع عن العقائد الإيمانية للمسلمين في وجه اليهود، والنصارى، وعقائد بلاد فارس، والهند، وفي وجه الملاحدة والزنادقة ومذاهب الزيغ الإسلامية من خوارج ومرجئة وشيعة ومعتزلة ....حتى انتشرت عقائد الأشاعرة بفضل المذهب الأشعري في بقاع العالم الإسلامي بحيث لم يعرف مذهب عقدي الانتشار في المكان مثلما عرفه المذهب الأشعري فخريطة الحضور الأشعري ممتدة وشاسعة من الغرب الإسلامي إلى بلاد الهند والسند. ناهيك عن علماء هذا المذهب بدءا من أبي الحسن الأشعري، مرورا بالباقلاني، وإمام الحرمين، والغزالي، والقاضي عياض، وابن العربي، وابن حجر العسقلاني، والسبكي والزركشي والسيوطي والسنوسي.... واللائحة طويلة.
إن الذي يقرأ التاريخ لا يعدم الجواب عن أن أسئلة حارقة كانت تطرح على العلماء متعلقة بذات الله، وبمفهوم التوحيد، وبالعدل الإلهي، وبتدخل الله في العالم، وبالعلم الإلهي وبقدرته وما إلى ذلك كانت تقتضي أن يتفاعل المذهب معها ويجيب عنها من قبيل يد الله هل هي مثل يد مخلوقاته؟ وأصابع الرحمن هل عددها بعدد أصابع يد الإنسان؟ وهل يقدر الله على خلق الكون في حجم بيضة دجاجة؟......إلخ ولقد تصدى العلماء الأشاعرة عبر التاريخ لمثل هذه الأسئلة ولم يدفنوا رؤوسهم في الرمال، ويبتلعوا ألسنتهم بل قدموا أجوبة متناغمة تحافظ على معنى التوحيد والتنزيه المطلق لله. وعلى هذا فإن دلالة التطور في المذهب تعني مما تعنيه أنه في وقت ما يتم التركيز على مسألة دون سواها أو تفصيل لدقيق الكلام وجزئية من الجزئيات وتدعيمها بالأدلة والحجج العقلية....
واليوم وفي حمأة التطور الذي تشهده العلوم الدقيقة والإنسان المعاصرانبرى العلماء لإثبات الإعجاز العلمي في القرآن الكريم وفي السنة النبوية وهذا العمل من صميم المذهب الأشعري لأنه يؤكد على استعمال النظر وبناء الإيمان على اليقين لا على التقليد. كما ظهرت الحاجة إلى تبسيط مضامين المعتقد الأشعري وتكييفها مع مستجدات العصر. وفي الوقت الذي يبرز فيه المذهب الأشعري قابليته للتطور وتربية الإنسان المعاصر على التفاؤل والإقبال على ربه وعلى واجباته بيقين تام وانفتاح وتسامح ووسطية واعتدال. يظهر لنا المذهب الوهابي وهو يتطور نحو مزيد من التشدد والتطرف والإرهاب وكراهية المخالفين والسعي نحو استئصالهم وترهيبهم فمن منظمة القاعدة إلى بوكو حرام إلى داعش ويعلم الله ما يخبئ لنا الغيب.