السبت 18 مايو 2024
كتاب الرأي

عبد الجليل بيشا:الدار البيضاء.. من “ساليغان” إلى “أفريكان”..

 
 
عبد الجليل بيشا:الدار البيضاء.. من “ساليغان” إلى “أفريكان”.. عبد الجليل بيشا
يختزل العنوان أعلاه، حدثان كانت مدينة الدار البيضاء مسرحا لهما، تفصل بينهما سبعة عقود من الزمن، وقع الأول في درب الكبير في ربيع 1947، بينما جرت أطوار الثاني في محيط أولاد زيان، يوم الجمعة 24 نونبر الحالي، ونعتقد اليوم؛ أن ذانيك الحدثان يتشابهان من حيث الأسباب والحيثيات، ويختلفان من حيث النتائج.
1. أحداث درب الكبير،7 أبريل 1947. في مساء السبت 7 أبريل 1947، وقع شجار بين بعض سكان درب الكبير، أحد الأحياء الشعبية الفقيرة بالدار البيضاء، وعناصر من فرقة “القناصة السنغاليين”، إحدى الفرق العسكرية التي شكلتها فرنسا الاستعمارية لغزو المغرب، والتي كان بعض عسكرييها ينعتها “الجيش الأسود” (لارمي نوار)، أما المغاربة فكانوا ينعتونها باسم “ساليغان”. كانت حصيلة المواجهة ثقيلة، حددت جريدة «لافيجي ماروكين»، الذراع الإعلامي لسلطة الاحتلال، ضحاياها في 63 قتيل و117 جريح، بينهم نساء وأطفال، أما الإقامة العامة بالرباط، فأرجعت أسباب الحادث إلى مناوشات بالحي، تحولت بسرعة إلى شجار بين المدنيين المغاربة والقناصة السنغاليين، أثناء “مكافحة الشغب”، ولتلطيف الأجواء وامتصاص الغضب، قامت بتشكيل “لجنة إغاثة”، عهدت برئاستها إلى بونيفاس المراقب المدني بالمدينة، والمسؤول الرئيسي عن الأحداث، وأشرفت على تنظيم مظاهرات وحملات تضامن مع الضحايا. وبخلاف ذلك، أرجعت الرواية المغربية، أسباب الحادث إلى تحرش بعض “ساليغان” ببعض نساء الحي، الذي كان يعرف حينها، انتشارا واسعا للدعارة والجريمة، و أنه تم إطلاق النار على المحتجين بدم بارد، وأن رجال الشرطة لم يتدخلوا لوقف عمليات القنص العشوائي للسكان، ومن جهتها ردت الأحزاب السياسية المغربية، وفي مقدمتها حزب الاستقلال، بالدعوة إلى إضراب عام بالمدن المغربية، ونظمت حملة مناوئة لتقديم المساعدات لأسر الضحايا. تزامنت تلك المجزرة مع حدث سياسي هام كانت طنجة مسرحا له، يتعلق الأمر بزيارة السلطان ابن يوسف (محمد الخامس) للمدينة، التي كانت يومها تحظى بإدارة دولية، وقد انتهت بعض التحليلات إلى أن المجزرة قد تم التدبير لها لصرف الأنظار عن ذلك الحدث السياسي الذي شكل نقطة اللاّ عودة بين القصر والإقامة العامة في مسألة نيل الاستقلال، والتي جسدها خطاب ابن يوسف في تلك الزيارة يوم 10 أبريل 1947، وكان الأخير يومها يجد دعما داخليا من حزب الاستقلال، وخارجيا من جامعة الدول العربية. أما فرنسا فأظهرت رغبتها في عدم التخلي عن المغرب، فقامت في نفس السنة بتعيين الجنرال جوان مقيما عاما جديدا، مما أجج الصراع بين الطرفين.
2. أحداث أولاد زيان، 24 نونبر 2017. دفعت مستجدات قضية الصحراء وحراك 20 فبراير 2011، الذي خاض في مسألة ثروة الملك، الأخير إلى اختيار القارة الإفريقية وجهة لاستثماراته المالية، بعد سحب جزء منها من بعض القطاعات الاقتصادية بالداخل، ونافذة جديدة لسياسة المغرب الخارجية، وجرى بعدها التمهيد لعودة البلد إلى “الاتحاد الإفريقي”، فكان خطاب ذكرى المسيرة السنة الماضية من داكار، مقدمة لتلك العودة مطلع السنة الجارية. فكرة «العمق الإفريقي» للمغرب، حوّلت البلد إلى وجهة لمهاجري إفريقيا جنوب الصحراء، بعد أن كان منذ سنوات ممرا لهم نحو القارة الأوربية، فغزت جحافل منهم معظم المدن المغربية وخاصة الكبرى منها، من أكادير جنوبا إلى طنجة شمالا، وتمت تسوية أوضاع القدامى منهم فمنحوا حق الإقامة بالبلد مع ما يضمنه ذلك من حقوق اجتماعية أخرى، وشجع ذلك تدفق موجات أخرى من أولائك المهاجرين، فأصبحنا اليوم أمام ظاهرة اجتماعية جديدة يمكن تسميتها «الشعب الأسود» (أفريكان)، الذي يراد من تشكيله خلق توازنات اجتماعية وسياسية جديدة بالبلد، وأداة لمواجهة أي حراكات أو مطالب اجتماعية أو سياسية قادمة، ولعل الفكرة في العمق بعث لفكرة “جيش البخاري”، الذي كان يدين بالولاء التام للسلطان، أسسه المولى إسماعيل ليكون بديلا عن “جيش القبائل”، ولضرب القبائل المتمردة منها، عملا بمقولة «ضرب الكبش الأبيض بالكبش الأسود»، والذي لم تكن فرقة القناصة السينغاليين (ساليغان)، في حقيقة الأمر سوى نسخته الثانية. ارتكب بعض “أفريكان”، تجاوزات كثيرة في حق المواطنين المغاربة، بلغ أقصاها جرائم قتل وإيذاء بالأسلحة البيضاء كما في فاس وطنجة، وحوادث سرقة وتحرش واحتلال للملك العمومي كما في الدار البيضاء، التي كانت مسرحا للمواجهات الأخيرة، وفق ما ورد في التقارير الصحفية المرئية والمكتوبة، والتي أيقظت في الذهن كتابة هذا المقال للمقارنة بينها وحادث 1947.
3. الدار البيضاء بين حدثين. أضحت الدار البيضاء منذ الاحتلال الفرنسي لها صيف 1907، رئة المغرب الاقتصادية ووجهة لهجرة العَملة، وعانت مع نهاية الأربعينات من وطأة «مسيرات الجوع»، التي اجتاحتها من الشمال والجنوب بعد مجاعة 1945، وخاصة من أودية سوس وواد نون ودرعة، مسيرات حولتها إلى ساحة للخِيّم والنوايل، وجعلتها إلى وقت قريب توصف بـ”مدينة الكاريانات”، والفارق اليوم؛ هي أنها ضحية لمسيرات هجرة من مناطق أبعد جغرافيا وثقافيا وإثنيا. إن الذي يهمنا في هذه اللحظة، هو المقارنة بين حوادث 1947 و2017، من حيث الملابسات والظروف والخلفيات السياسية التي كانت وراء كل منهما، وإذا كنا شرحنا بعضا مما يخص الحدث الأول، فإنه وأمام نقص المعطيات حول الحدث الأخير، يمكننا طرح تساؤلات نترك الإجابة عنها للتاريخ، نجملها في الآتي: – هل كان عرضا أن تكون الدار البيضاء ساحة للمواجهات الأخيرة، رغم أن طنجة بحكم حوادث سابقة مع “أفريكان”، هي الأكثر قابلية للاشتعال؟ – ألم تتزامن والتصريحات التي فجرها ناصر الزفزافي، زعيم حراك الريف حول تحريض “حاكم طنجة” السابق له ضد الملك؟ – هل لأطراف خارجية أو أخرى داخلية يد فيها، خاصة وأنها اندلعت قبل ساعات من زيارة الملك للعاصمة الافوارية أبيدجان، التي ستحتضن القمة القادمة للاتحاد الافريقي؟ – أم أن الأمر لم يعدو أن يكون خطة لصرف الأنظار عن ملفات “شهيد الطحن” بالحسيمة، و”شهيدات الطحين” بقرية بولعلام بناحية الصويرة، وعمليات “شرملة التعليم والمجتمع”؟!