الأحد 5 مايو 2024
مجتمع

أسرار النصب الذي مس عشرات الضحايا وسلبهم مئات الملايين باسم «مهمة سرية من القصر الملكي»!

أسرار النصب الذي مس عشرات الضحايا وسلبهم مئات الملايين باسم «مهمة سرية من القصر الملكي»!

ماذا بوسع مواطن عادي أن يفعل وقد عرضت عليه إمكانية العيش بالولايات المتحدة الأمريكية مقابل مبلغ مالي من الممكن تداركه في أقصر مدة زمنية ببلد الدولار؟ وأي درجة من الذكاء من الواجب عليه امتلاكها حتى يميز بين مصداقية الادعاء وكذبه؟ خاصة إذا كان أصحاب الاقتراح لهم بطاقات تحمل «مهمة سرية من القصر الملكي» وأخرى عليها أختام القوات المسلحة الملكية، بل منها ما تشير، بما لا يدع مجالا للشك، أن مقدمها مستشار ببلاط الملك محمد السادس. وليس هذا فحسب، وإنما الإغراء بحمل الجنسية الأمريكية انطلاقا من المغرب قبل الحصول على بطاقة الضمان الاجتماعي و«كارت غرين»، فضلا عن تذكرة سفر بطائرة تم تعيين نوعها وسعة طاقتها. والأدهى أخذ البصمات على طريقة «الكوميساريات»، والمقاس لتجهيز بذلة عسكرية. إنها بالفعل مغريات كان طبيعيا أن تستسلم مقابلها كل ذرة شك قد تنتاب المترشح، فكان هذا حال مجموعة من الراغبين في مصافحة حلم بلد العام السام دون أن يعلموا بأن جريهم لا يعدو أكثر من سعي وراء السراب، وما آمالهم سوى ضرب من ضروب الخيال.

«الوطن الآن» جالست ضحايا يعرض ملفهم أمام ابتدائية عين السبع بالبيضاء حاليا

 

شكلت البيئة الفقيرة التي نشأ فيها نور الدين ذو الثانية والثلاثين عاما، إلى جانب خمسة أشقاء، مصدر قهر واستفزاز لمبادئه، استمر في ضغطه إلى أن هزمه أخيرا، فقبل دخول مغامرة غير محسوبة العواقب، لكنها تملك في نظره الحل الذي طالما لهث وراءه، واعتبره كما معظم الشباب اليائس، المخرج الأخير الذي تتكدس خلفه جميع الغايات والآمال. فكانت بداية الحكاية مع بلوغ علمه وجود من يضمن له الرحيل إلى الولايات المتحدة الأمريكية بكافة الامتيازات، سواء في ما يخص الحصول على التأشيرة أو الإقامة أو الجنسية، ومن ثمة امتلاك جواز سفر أمريكي أزرق. وما رفع من سقف أحلامه علمه بأن العملية ستتم في إطار شراكة بين المغرب وأمريكا التي خصصت هبة مالية مهمة لبعض الجنود المغاربة المتقاعدين، وكذلك المنقطعين عن ممارسة الجندية لظروف قاهرة خارجة عن إرادتهم. لذلك، ومقابل تحقيق الرغبة تمت مطالبته بمبلغ 165 ألف درهم مع إحضار جواز السفر وصور فوتوغرافية. فتم تسليم المبلغ على مضض بالموازاة مع ملء استمارات في انتظار الحصول على تأشيرة دخول التراب الأمريكي. بعد هذا، أخبر بأن البرنامج تغير في سبيل الحصول على بطاقة الإقامة «غرين كارت»، مع إضافة قيمة مالية أخرى بغرض التمتع بالجنسية الأمريكية انطلاقا من المغرب، حينها أتاه النصابون بجواز سفره مؤشرا بتأشيرة سفر تبين في ما بعد أنها مزورة. لكن ومع الحبكة التي انتهت إليها الخدعة لم يكن بإمكانه أو أي شخص آخر الانتباه أو مجرد الشك في قانونية الوثيقة، لتستمر اللعبة بوتيرة رتيبة، إنما هادئة لا يعكر صفوها إلا هاجس استعجال الاشتغال بمجتمع الدولار. وقتها اختفت المرأة، الرأس المدبر، لثلاثة أشهر، قبل أن تبرر ذلك الغياب بسفرها إلى الولايات المتحدة الأمريكية حيث تولت بنفسها تسوية كل الوثائق الإدارية المتعلقة بالمترشحين. ولإغرائه أكثر سلمته ظرفا مغلوقا ادعت أن بداخله جواز سفر أمريكي أزرق شريطة ألا يفتح سوى من طرف شرطة الحدود بمطار محمد الخامس الدولي بمدينة الدار البيضاء. إنما المفاجأة المرة والصادمة ستكون حينما سيدفعه فضوله إلى اكتشاف أن الظرف يحتوي فقط على مذكرة بغلاف بلاستيكي لا تتعدى قيمتها درهما أو درهمين.

ليلة الانتقال إلى طانطان لمقابلة قادة من البانتاغون الأمريكي

أمواج التجربة لم تكن إلا أن تجرف معها أيضا فؤاد، البالغ 38 سنة، وتحوله فريسة تلاعبات لم تخطر على باله ولو مزاحا. فالشاب المذكور ولحظه التعس، وبعد أن سلم الشبكة الإجرامية مبلغ 170 ألف درهم، أبلغ بضرورة الانتقال إلى الأقاليم الجنوبية قصد الاستعداد للسفر إلى أمريكا عبر المطار العسكري لمدينة طانطان على مثن طائرة عسكرية 630 التي تقل حوالي 138 مسافرا. وذلك بعد زيارة مرتقبة لقادة في الجيش الأمريكي حتى يتعرفوا على المترشحين. والمثير، يحكي فؤاد، أن الأظناء أخذوا له مقاساته لإنجاز بذلة عسكرية له. وتحت تحفيز هذه الإجراءات التي تبدو وكأنها الصدق بعينه، سافر إلى مدينة طانطان ونزل بفندق هناك لحوالي 5 أشهر وعلى نفقته. ليجد عناصر أخرى ممن تم الضحك على ذقونهم مثله قسمهم المحتالون إلى مجموعات تتكون كل واحدة من 5 أشخاص على رأسهم مترشح واحد. كل هذا كان رفقة تعب بدني مرهق، غير أنه لم ينل منهم بقدر ما أعياهم الاختناق النفسي الذي بدأ في التصعيد مع توالي أيام الترقب. ورغم ذلك كانت صورة الأمل لا تفارقهم. وبين حمل النفس على تقبل ضغط الانتظار والحرص على الذهاب إلى آخر مرحلة في المغامرة ظل هؤلاء، ومن بينهم فؤاد، يعيشون تقلبات تيار داخلي يريحهم تارة ويوترهم تارة أخرى، إلى أن بلغهم اليقين أن الأمر لا يعدو أكثر من تمطيط للوقت وأكاذيب دفعتهم إلى أن يتخذوا قرار جر ذيول الخيبة والعودة إلى ديارهم محبطين.

حقيقة الرسالة «الملغومة» التي انفجرت في وجه فاتحها بؤسا ومعاناة

لا يزال عبد الكبير، البالغ 41 سنة، يتذكر اللحظة التي دفعه فيها فضوله كشباب آخرين إلى عدم انتظار حلول وقت مروره بشرطة الحدود حتى تفتح الظرف المسلم إليه من قبل العصابة. خاصة مع تسرب شكوك فراغ كل تلك الوعود من مضمونها. فأقدم على تمزيق الظرف الذي أُخبر بأنه يحتوي على جواز أزرق أمريكي، ليجد داخله مجرد مذكرة لا تفترق عن تلك التي تباع بدرهمين على أكبر تقدير. وهي الصدمة التي أخرجته من البيت مشتت الذهن، وغير مصدق لما يجري. وهو الذي استنزف تطلع هجرته لبلد العم سام كل ما ادخره من آلاف الدراهم على مدى 12 سنة من العمل. إذ غدت الآمال وفي برهة سرابا أدار له الظهر، وابتز منه جميع ما احتفظ به ضد نوائب الزمن. فصارت حياته الآن عنوانا لكافة مظاهر البؤس والمعاناة. إلى درجة كانت الصدفة فقط هي المسؤولة في أكثر من مرة عن عدم وضع حد لحياته.

الصاعقة التي تنكرت في معتقد «كود ماه صحيح»..

«وقعنا في الخطأ.. لكن الجناة كانوا في غاية الدهاء»، هكذا حاول بعض المتضررين تلخيص ما آل إليه مصيرهم. بناء على أن عمليتهم كانت بطرق احترافية جمعت بين الذكاء الخبيث والمكر. وكيف لا يخدع المرء، تقول إحدى الشهادات، وإحدى المجرمات تقدم نفسها أولا كولونيلا متحججة بما يثبت قولها، وثانيا على أساس أنها تشتغل بوظيفة سامية مقربة من الملك، وثالثا، تعطيك الدليل على أن الرحلة إلى واشنطن تتم بشكل أسهل مما ينتقل به المغاربة بين مدينتي الدار البيضاء والرباط. فضلا عن كل ذلك، يتابع المتحدث، يبسطون أمامك وثائق عليها أختام القوات المسلحة الملكية، وأخرى عبارة عن بطائق الإقامة والضمان الاجتماعي وتذاكر الطائرة. فكل من قاده القدر إلى بين أيديهم، تضيف الشهادة، سيسقط لا محالة في المطب مهما بلغت درجة ذكائه أو معرفته بخبايا الأمور، فما بالك إذن بمواطن عادي من اليسير جدا خداعه وهو مسلوب التركيز في سبيل الاستيقاظ على خبر حلول موعد السفر. طالما أنه صار على يقين تام بأن له «كود ماه صحيح».

من التخطيط للعيش بفلوريدا إلى المبيت بإحدى حدائق البرنوصي

منهم من دفع كل ما اكتنزه طيلة أعوام عمله، ومنهم من كانت وجهته مؤسسة بنكية لاقتراض ما يسدد به المطلوب منه، كما ضمنهم من لجأ إلى ما حصل عليه كإرث لتحقيق رغبته. كلها منافذ اهتدى إليها المغرر بهم. لكن وعلى الرغم من اختلافها فإنها توحدت في ما أرخته من تبعات مادية ونفسية على الضحايا، هذا إلى جانب التوترات الاجتماعية التي تسربت إلى علاقاتهم الأسرية، نتيجة استقالة البعض من عملهم «بلا تابع ولا متبوع»، وتخلي البعض عن مواصلة دراسته. فكانت النتيجة حالات إنسانية مزرية، لعل من بين أقساها حالة الشاب الذي باع نصيبه في الإرث وصار، بعد أن كان يمني النفس بالوقوف إلى جانب ساكني فلوريدا، يبيت حاليا في إحدى الحدائق بمنطقة البرنوصي في مدينة الدار البيضاء، مفترشا قطعا كرتونية ويتغطى ببطانية منحه إياها أحد المحسنين، في حين لا يستبعد مقربون منه أن يفقد عقله بعد أن شوهد مرارا مرارا وكأنه يحدث نفسه، ولا يلتقي أحدا إلا واسترسل في سرد تفاصيل ورطته حتى وإن كان لا يعرفه.

هيأة الدعم والمساندة: أي منطق يقبل تصنيف جرم المعتقلين كجنحة وليس جناية؟

على إثر عملية النصب هاته التي تعرض لها العشرات من المواطنين، وكلفتهم ملايين السنتيمات كانت على حساب مجهود سنوات من العمل أو سلف أو حصة إرث، وكان آخر مستجداتها جلسة الجمعة الماضية بالمحكمة الابتدائية لعين السبع بالبيضاء التي أجلت محاكمة المتهمين إلى شهر يوليوز القادم، تطالب «هيأة الدعم والمساندة لضحايا النصب من أجل الهجرة إلى أمريكا»، الجهات المسؤولة وعلى رأسها وزارة العدل والحريات بتعميق البحث والتقصي في هذا الملف لغاية إماطة اللثام عمن يقف وراء ستار هذه الشبكة، مع ضرورة عرض القضية برمتها بالدار البيضاء وليس بين هذه المدينة وأكادير، كما يستوجب النظر إليها جنائيا وليس جنحيا كما يحدث، باعتبارها تهم شأنا خطيرا يمس تزوير وثائق رسمية تخص المؤسسة العسكرية المغربية والقوات المسلحة الملكية، وأخرى تحمل إمضاءات السلطات الأمريكية من قبيل «غرين كارت» و«الضمان الاجتماعي» و«تذاكر الطائرة» و«جوازات سفر» و«تأشيرات السفر» و«رخص سياقة».