الأحد 6 أكتوبر 2024
كتاب الرأي

عبد القادر زاوي: أمريكا والعالم العربي.. السعي للتغيير ولو بالتدمير

عبد القادر زاوي: أمريكا والعالم العربي.. السعي للتغيير ولو بالتدمير

يستغرب كثير من العرب كيف يمكن للولايات المتحدة الأمريكية أن تتخذ مواقف متناقضة وأحيانا متضاربة من كل من مجريات الأزمة السورية، والوضع على الساحة العراقية، ومن ضراوة الاقتتال الدائر في كل من ليبيا، والتدهور الحاد في اليمن حيث تدعي أمرا ما اليوم،  وتعود في الغد  لتؤكد عكسه أو تلغيه تماما، وكأنها متشبعة بالمثل العربي الشهير "كلام الليل يمحوه النهار" وحريصة على التقيد به.

ولا يقف البعض عند الاستغراب، وإنما يحاول تحليل المواقف منقبا عن الدوافع والأهداف، مساهما من حيث لا يدري في مفاقمة المخاوف، مما تبرمه الإدارات الأمريكية من صفقات واتفاقات هنا وهناك معاتبا إياها على خذلان هذا، والتنكر لالتزاماتها مع ذاك، متناسيا أن السياسة الأمريكية في المقام الأول سياسة مصلحية، واقعية ومرنة، وليست مبدئية على الإطلاق، ما يسهل عليها الانتقال من النقيض إلى النقيض دون حرج يذكر.

وإذا كان جاك أطالي قد أفاد الرئيس الراحل فرانسوا ميتيران بأنه منذ استخدام القنابل الذرية ضد اليابان خلال الحرب العالمية الثانية، فالله وحده يعلم كيف تفكر أمريكا في تدبير شؤون العالم ؛ فإن الدبلوماسيين الأمريكيين عندما تتحدث إليهم سعيا لمعرفة كنه مواقف بلادهم يتندرون بأن الرئيس الفرنسي الراحل شارل ديغول مات وفي نفسه غصة من أنه لم يفهم أبدا لماذا ساعدت الولايات المتحدة الأمريكية فرنسا على التحرر من الاجتياح الألماني خلال الحرب العالمية الثانية أيضا، رغم أنه لم يكف عن السعي لمعرفة ذلك موظفا كل الإمكانيات من أجله.

وأغلب الظن أن لجوء الدبلوماسيين الأمريكيين إلى التندر في الموضوع يعود إلى الرغبة في تفادي الإحراج، لأنهم فعلا هم أيضا لا يدركون في معظم الأحيان  لماذا اتخذت إدارة بلادهم بعض القرارات؟ ولماذا اضطرت وعادت أحيانا إلى مراجعتها أو تغييرها، وربما لجأت بكل بساطة إلى التخلي عنها؟ كما لا يعرفون كيف بإمكانهم تفسير العديد من الإشارات التي تصدر عن هذه الإدارة، ويجدون صعوبة جمة في تسويقها أو مجرد تبريرها.

فقبل انطلاق الربيع العربي كانت واشنطن تشتم رائحة حراك كهذا، ولطالما حذرت البعض منه، إذ كانت تعتقد أن معظم الأنظمة العربية تجلس على براميل بارود ستنفجر حتما إذا لم تغير تلك الأنظمة من وسائل تسيير مجتمعاتها، وإخراجها تدريجيا من سجن الركود السياسي والاقتصادي الذي وضعتها فيه. ولذلك وازنت واشنطن إبان فورة الثورات والاحتجاجات بين مصالحها الإستراتيجية وقيمها الأساسية، فارتأت أن تتخذ على حد تعبير وزيرة خارجيتها آنذاك الجانب الصحيح من التاريخ، مهللة لظاهرة  الربيع العربي، وساعية إلى مجاراتها واحتوائها.

ولكن ها هي واشنطن فجأة بعد أربع سنوات من تحفيز ثورات الربيع العربي واحتجاجاته تعود تدريجيا وبلا خجل عن ذلك الموقف لتعلن أن عليها في إطار البحث عن حلول سياسية ممكنة للأزمات المستعصية أن تفاوض الأنظمة القائمة بما فيها من تسبب في مقتل أزيد من 220 ألف نسمة، وشرد نصف مواطنيه، كما جاء على لسان وزير خارجيتها الحالي.

استثار هذا الموقف جميع المتابعين لأنه بدا كلغز آخر من ألغاز السياسة الخارجية الأمريكية التي ظلت على مدى عقود عديدة تروج إعلاميا فقط بأن الديكتاتوريات لا تحقق الأمن، ولكنها توهم الناس به، وأن المزيد من الازدهار الحقيقي يتطلب المزيد من الحرية في وقت كانت واشنطن متواطئة لاعتبارات إستراتيجية ومالية وأمنية ملحة (أمن إسرائيل ومكافحة الإرهاب وتأمين الاستفادة من النفط وعوائده) مع أنظمة ظلت تتهمها بالفساد والاستبداد. أنظمة حكمت شعوبها بسلطات شبه مطلقة وقبضة حديدية ضاربة عرض الحائط بما كانت تدعيه بأن قيم أمريكا ومكانتها كمنارة للقيم والفرص هي أعظم مصدر لقوتها أكثر بكثير من قدراتها العسكرية والاقتصادية.

غير أن الحقيقة تخالف ذلك تماما، لأن الولايات المتحدة الأمريكية تمتلك المرونة الكافية لكي تبدل المواقف وتغير التوجهات بسرعة متى ما استشعرت أن الفوائد المحتملة تفوق المخاطر بكثير. فحسابات الفوائد والمخاطر تحضر دوما في سياسات أمريكا عند التعامل مع الدول التي تعارض سياساتها، ولكن واشنطن تحتاج للتعامل أو للتعاون معها، بوصلتها في ذلك أن هدفها الأسمى هو الحفاظ على أمن أمريكا وقوتها وازدهارها وريادتها المستمرة للعالم.

وكما هو معلوم فإن أقسى ما تخشاه الولايات المتحدة الأمريكية هو أن تنتكس مصالحها الإستراتيجية عبر العالم. فكيف سيكون الحال إذا ما وقعت تلك الانتكاسة في منطقة حيوية لها سياسة واقتصادا وقيما أيضا. وقد شعرت الولايات المتحدة الأمريكية فعلا أنها أمام إرهاصات انتكاسة كبيرة بعد اندلاع شرارة ثورات الربيع العربي واحتجاجاته. إرهاصات كانت تشي بإمكانية نسف ثوابت سياستها في المنطقة، ما دفعها إلى التحرك لاستيعاب الظاهرة، لاسيما وأنها ما تزال أسيرة هواجس أحداث 11 سبتمبر 2001، التي أثبتت أن تداعيات أزمات الشرق الأوسط يمكن أن تضرب أمريكا في عقر دارها، وتدمر رموز قوتها.

جرت محاولات الاستيعاب بمراعاة خصوصية كل ساحة حراك شعبي على حدة، ولكنها جميعا استندت على ما تسميه النخبة الأمريكية القوة الذكية التي تمزج بين الأدوات التقليدية للسياسة الخارجية الأمريكية ممثلة في الدبلوماسية النشطة، والمساعدات التنموية المشروطة، والتلويح باستخدام القوة العسكرية الجبارة إن اقتضى الحال، وبين استخدام الوسائل المستحدثة كاتصالات الفضاء الإلكتروني والتواصل مع فعاليات المجتمع المدني والشراكة مع المبادرات الحرة والقطاع الخاص، أملا في أن تظل مشاكل المجتمعات العربية داخل حدود دولها بدون تأثير كبير على غيرها.

وفي خضم تفاعلات الربيع العربي المتواصلة لحد الآن سرعان ما تبين للأمريكيين استحالة الاعتماد على شباب الثورات المتقد حماسا، لأنه بلا رؤية ولو بدائية للغد، وكذلك فشل المراهنة على التيارات الإسلامية المعتدلة للحكم من أجل دعم الاستقرار وخلق فرص الأمل للشباب العربي الذي يريد أن يكون له في بلدانه حلما مماثلا للحلم الأمريكي يعطيه فرصة بناء مستقبله وتأمين حياة كريمة له ولعائلته دون أن يسأل عن أصله أو فصله ولا عن حسبه أو نسبه، ولا عن درجة ولائه؛ وإنما يقدر كفاءته وجهوده واجتهاده والتزامه بالمبادئ العامة للمجتمع.

وقد كان الأمريكيون قبل ذلك قد تأكدوا من خلال تجربة منتدى المستقبل الذي أطلقوه سنة 2004، بأن إحداث التغيير المنشود عن طريق الديمقراطية والانتخابات مجرد سراب في المنطقة العربية حيث يدعي الكل تبني مسار ديمقراطي متدرج فيما هو يسعى حثيثا لنسف مقوماتها أو قمعها أو تمييعها حتى يظل في السلطة آمرا ناهيا لوحده بمعية أسرته أو حاشيته. ولهذا لم تخطئ كاتبة الدولة الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون أبدا حين شبهت محاولة تعبيد الطريق أمام التغيير في الشرق الأوسط بضرب للرأس في جدار من الطوب.

وينم حديث السيدة كلينتون هذا عن تبلور قناعة لدى الولايات المتحدة الأمريكية بأنها تتعامل مع منطقة تشكل معضلة جمة لها. فهي حيوية لمصالحها وللعالم أيضا بما تزخر به من مواد أولية لا غنى عنها للاقتصاد العالمي، ولكنها منطقة عصية على مواكبة التغييرات التي تشهدها العديد من مناطق العالم. وقد أثبتت فشلا ذريعا في تحقيق الأمن والاستقرار، وفي بناء مجتمعات ديمقراطية تنعم بالرخاء والازدهار، وكأنها تستلذ بقاءها سجينة للركود والتخلف على كافة المستويات، رغم إمكانياتها المادية والبشرية الضخمة.

وفي وضع الجمود هذا من الطبيعي، حسب واشنطن، أن يتفشى الفساد، ويتضاعف الاستبداد، ما يولد المزيد من الضغائن والأحقاد؛ الأمر الذي يقود حتما إلى اندلاع العنف والإرهاب واستشرائهما بشكل لا يصبان فيه جام غضبهما على الأوضاع الداخلية والقوى المتحكمة فيها فقط، وإنما أيضا على القوى الغربية وفي مقدمتها أمريكا، التي يرى الناقمون والساخطون أنها تقف خلف كل مآسي المجتمعات العربية وشقاء شعوبها بموقفها المتواطئ من القضية الفلسطينية والدعم المتواصل للأنظمة ولو كانت دكتاتورية.

وإزاء أوضاع مهترئة بهذا الشكل وسيادة توجهات فكرية إقصائية واستئصالية بأسمال قومية وخاصة دينية، مصحوبة باحتجاجات شعبية متواصلة قوضت أسس الاستقرار الداخلي لبلدانها وتمددت لتبعثر التوازن الجيواستراتيجي الإقليمي من البديهي أن ترى واشنطن أن مصلحتها تكمن في بقاء المنطقة العربية في حالة اضطراب مزمن دون أن تتدهور إلى حال التردي الشامل. اضطراب يمنعها من التفكير بهدوء في مستقبلها كي تظل في فلك الإدارة الأمريكية، بعيدا عن أن تشكل تحديا أمنيا جديا لها، خاصة إذا  كفت عن أن تكون في حاجة إلى المساعدة الأمريكية خشية تكرار نموذج التحدي الذي شكلته وتشكله لها كوريا الشمالية وإلى حد ما إيران.

وقد انتاب واشنطن القلق من أن الانتكاسات التي شهدتها ثورات الربيع العربي واحتجاجاته أثبتت صحة ما ادعاه أيمن الظوهري الزعيم الجديد لتنظيم القاعدة عن أن العمل السلمي لا يحدث التغيير المطلوب في الشرق الأوسط، خصوصا في ظل إفراز نخب انتهازية يفترض أن تكون قدوة فإذا هي عامل تنفير للانخراط في العملية السياسية بفعل ما تتبادله من اتهامات بانعدام الكفاءة واللصوصية والرشوة والسفه أيضا.

وبطبيعة الحال، فإن هذا الإخفاق في تعميم الممارسة الديمقراطية أكد للولايات المتحدة الأمريكية أنها إزاء منطقة ما تزال رواسب الماضي فيها حية وقادرة على أن تحرف أنظار الناس عن التركيز على استشراف مستقبلها وبنائه على أسس سليمة وحضارية كباقي الشعوب والأمم الأخرى، لاسيما في ظل أنظمة عجزت عن استيعاب توق الناس إلى التغيير، مصرة على أن تظل وصية على شعوبها رافضة أن تشب هذه الأخيرة عن الطوق؛ ما جعلها تفقد السيطرة على فئات واسعة من الأجيال الصاعدة وقوافل من المهمشين، مشرعة الأبواب أمام المزيد من المخاطر والاضطرابات.

وانطلاقا من هذه المعطيات تبلورت في دوائر صنع القرار الأمريكي في السياسة الخارجية القناعات التالية :

1- القدرة الهائلة لأساطير من الماضي والتاريخ على تكبيل أجيال ومجتمعات كاملة، والزج بها في معارك وهمية تستنزف قدراتها وإمكانياتها وتدمر كل فرص التعايش السلمي فيما بينها، وتمنعها من تحويل تركيزها على استشراف المستقبل والتخطيط السليم له.

2- محدودية الإستراتيجيات الدينية الرسمية للدول العربية الصديقة والحليفة في نسف الخطاب الديني المتشدد والمحرض على العنف باسم الجهاد، وذلك كما يتضح من حجم الشبكات الإرهابية والخلايا النائمة التي يعلن عن تفكيكها هنا وهناك.

3- رغم التفوق العلمي والتكنولوجي الساحق، فإن الولايات المتحدة الأمريكية بصدد خسارة معركة الفضاء الإلكتروني كوسيلة للحد من اجتذاب الشباب وتجنيده في التنظيمات الإرهابية المتطرفة، وذلك أمام من سماهم الدبلوماسي المخضرم ريتشارد هولبروك بسخرية مريرة المتطرفون المنزوون في أعماق الكهوف.

وعلى أساس أن سيادة التفكير الديني وطغيانه في هذه المجتمعات بات حقيقة ملموسة، سواء ارتدى هذا التفكير صبغة صوفية مسالمة أو طبيعة عنفية وإرهابية، فالأجدى لواشنطن أن تظل انعكاسات ما يولده تضارب مذاهب ومدارس وتأويلات هذا التفكير من كراهية عمياء متبادلة مصحوبة بعنف قاتل ومخيف حبيسة الحدود الجغرافية للمنطقة تصفي بعضها البعض، ولكن بوتيرة مضبوطة حتى لا تقود إلى الانهيار الشامل فجأة، وبطريقة تؤبد الصراع وتعمق الخلافات وتقضي على أي بارقة أمل في إبرام تفاهمات أو اتفاقات طويلة المدى حتى داخل المجتمع الواحد إن أمكن بغية منح واشنطن مزيدا من الوقت للتمكن من وضع تصور عملي واضح لنظام إقليمي جديد.

إن هذا ما يلاحظ في التعامل الأمريكي مع الأوضاع المأساوية الغارقة في حروب ونزاعات إقليمية وأهلية متداخلة على امتداد خريطة العالم العربي مع اختلاف في طبيعة التعاطي وأشكاله حسب درجة سخونة الساحة المعنية، ولكن مع الأخذ في الاعتبار أن الإدارة الأمريكية عندما رأت ضخامة المظاهرات الشعبية وعمق المستنقع الذي سقطت فيه بعض المجتمعات قدرت بأن إصلاح الأمور في المنطقة لن يحصل في أحسن الأحوال إلا بعد 25 سنة ستكون أطوارها قاسية على شعوب المنطقة ومعها المصالح الأمريكية، التي قالت الاستخبارات الأمريكية بأنها باتت عرضة للخطر أكثر من أي وقت مضى، وأن تخفيف حدة الخطر وليس إلغاءه تتطلب استنزاف دول المنطقة وشعوبها في نزاعات وحروب فيما بينها تلهيها كثيرا عن النظر خارج حدودها.

إن كل ما سبق يمكن أن نستشفه من متابعة تطورات الحالة العراقية، حيث لا تبدو الولايات المتحدة الأمريكية مستعجلة في اجتثاث تنظيم داعش وتوجيه ضربة قاصمة له بقدر ما تسعى إلى احتوائه وحشره في إطار معين يسمح باستخدام وجوده كعامل توتر من شأنه  المساعدة في:

- إنهاء ترسيم حدود الكيان الكردي، الذي يواصل بناء مقومات إدارته المستقلة واقتصاده المزدهر استنادا على قدراته النفطية انتظارا للحظة الانفصال التي باتت مرتبطة بديناميات المجال الإقليمي أكثر منها بديناميات الداخل العراقي. ولا شك أن قيام هذا الكيان في حد ذاته سيضاعف من هواجس وشكوك الشعوب ضد بعضها البعض.

- بدء ترسيم حدود الكيان السني في الأقاليم الغربية للعراق حول محافظات الأنبار ونينوى وصلاح الدين، وبتأسيس وحدات عسكرية لهذا الكيان من أبناء عشائر المنطقة استنادا إلى تجربة الصحوات التي حاربت تنظيم القاعدة بقيادة أبي مصعب الزرقاوي قبل حوالي تسع سنوات، وإذكاء النعرة الطائفية أكثر لدى سكان المنطقة كما بدا واضحا من النفور العام الذي حصل إزاء مشاركة قوات مما سمي الحشد الشعبي (ميليشيات شيعية) في تحرير مدينة تكريت ذات الرمزية العالية لدى سنة العراق ممن كانوا موالين لنظام صدام حسين، ناهيك عن القنبلة الموقوتة التي تمثلها مدينة سامراء ذات الأغلبية السكانية السنية، والمحج المميز للشيعة الجعفرية بوجود ضريحي الإمامين علي الهادي والحسن العسكري فيها.

وها هو الكونغرس الأمريكي يفضح النوايا الحقيقية بالإعلان عن سعيه نحو إقرار قانون يسمح بالتعامل مباشرة مع سنة العراق وأكراده بعيدا عن رقابة الحكومة المركزية في بغداد أو المرور عبرها مولدا ردود فعل عنيفة ستضاعف ولا شك من حدة الخلافات القائمة بين مختلف مكونات الشعب العراقي وتفاقم عدم الثقة السائد بينها، الذي أججته أكثر اغتيالات طالت مؤخرا بعضا من سكان محافظة الأنبار الذين نزحوا نحو بغداد هربا من جحيم داعش.

وفي السياق ذاته لا أحد يجادل في أن التحركات الأمريكية إزاء الوضع في سوريا تبدو ملتبسة كثيرا، وتبعث إشارات متناقضة لكافة الأطراف تفاقم مخزون الحقد والكراهية بين مكونات الشعب السوري، وتضاعف من تقوقع هذه المكونات على ذاتها وفي إطار انتماءاتها الدونية بشكل يقضي على أي أمل في عودة الانصهار الوطني ولو بصورة هشة.

لقد تمكنت واشنطن بسياستها المتأرجحة بين الأطراف من تأجيج حدة الصراع بينها، وحفز البعد المذهبي ليغدو الغالب فيه من خلال توريط ذكي للقوى الإقليمية أيضا؛ الأمر الذي أفشل كل محاولات إيجاد حل سياسي على قاعدة مقررات جنيف 1 و2 أو في أحضان موسكو 1 و2، وقضى على إمكانية بناء ثقة ولو محدودة للغاية من خلال مقترح المبعوث الأممي دي ميستورا القاضي بإعلان هدنة بين المتحاربين في المناطق الآهلة بالسكان بدءا بمدينة حلب.

وستظهر هذه التناقضات الأمريكية جلية من خلال  امتناعها عن التجاوب مع الدعوات الرامية إلى إقامة منطقة عازلة شمال سوريا ومنطقة حظر جوي مكتفية بنزع السلاح الكيماوي السوري، مسدية خدمة جليلة لإسرائيل؛ وذلك خلافا لما بدا عليها من نشاط وتأهب لتوجيه ضربات جوية ضد تنظيم داعش في المناطق الكردية من سوريا، ما ساعد أكراد هذه الأخيرة على بدء إقامة منطقة حكم ذاتي لهم على غرار أقرانهم في العراق انطلاقا من مدينة كوباني (عين العرب)، وعلى أساس توحيد الفصائل الكردية وميليشياتها المختلفة ضمن ما سمي وحدات الحماية االشعبية لكردية لتصبح قوة مهيكلة ومهابة الجانب كالبشمركة، لتزداد الشكوك والريبة بين مكونات المجتمع السوري على غرار ما يقع في العراق.

وبالفعل، فإن هذا السلوك ضاعف منسوب الكراهية المرتفع الذي انعكس على الأرض معارك ضارية لم تعد فيها أي ممارسة لا إنسانية محظورة بدءا بقتل المدنيين وانتهاء باستخدام الأسلحة المحرمة دوليا، الأمر الذي بات معه الحديث عن مصالحة وطنية أضغاث أحلام، وجعل سوريا تنقسم واقعيا إلى إمارات وكيانات متعددة بتعدد الفصائل المتحاربة على الأرض يسيطر فيها نظام الرئيس بشار الأسد على أقل من 25% من مساحة البلاد.

ورغم تعقيدات الوضع اليمني وتعدد أسباب توتره، فإن العامل المذهبي جرى استحضاره بقوة وتم إذكاء جذوته بسرعة بغية الإسهام في استشراء نيران المذهبية وتأجيج النزاعات الدينية بنكهة قبلية ومناطقية أيضا؛ الأمر الذي يفقد معه اليمن أي فرصة لاستعادة عافيته ودوره الإيجابي ليغدو هو الآخر بؤرة مستباحة من كافة الأطراف والقوى الإقليمية من دول وجماعات في اقتتال عبثي تماما كما يجري في ساحات أخرى.

ولم تتوقف الأمور عند هذا الحد، وإنما تطورت بشكل استدعى تدخلا عربيا خليجيا حازما سيجري استغلاله لا محالة في زرع بذور عداء شديد التعصب في شبه الجزيرة العربية بين أهل اليمن الذين سيتم التركيز على أنهم فقراء، وبين أهل الخليج الذين يجري تصويرهم فاحشو الثراء. عداء ستتم تغذيته بكل عوامل الاستفزاز وتوابل الحقد والكراهية كي يتواصل مستعرا في الزمن بما يتجاوز حرب البسوس أو داحس والغبراء، ويستمر في تشكيل بؤرة توتر مزمنة تستنفر الأطراف المعنية طول الوقت وتصرفهم عن التنمية والبناء.

وفي ضوء ما تفرزه عاصفة الحزم من وقائع جديدة على الأرض من الواضح أن تطورات الساحة اليمنية تنحو في اتجاه التعقيد أكثر، والاقتتال بشراسة لا متناهية حيث تتمدد بعض القوى ترابيا كما هو شأن تنظيم القاعدة، وتتمترس أخرى وراء تعنت مواقفها مثلما تؤكد جماعة أنصار الله الحوثية، ويجري تشكيل قوى جديدة موالية لهذا أو ذاك من الساسة الذين لا يتورعون في توظيف انتماءاتهم الدونية المذهبية والقبلية والجهوية للمزيد من الحشد والتعبئة بشكل يقطع الطريق على أي بصيص أمل في الخروج من نفق الاقتتال والتناحر ويشل كل إمكانية للحلول السلمية كما حصل مع مبادرات الأمم المتحدة.

ولم يشفع لليبيا غياب البعد المذهبي داخل مجتمعها لتنجو من السقوط في أتون حرب أهلية بين تيارات سياسية ودينية وقبلية تتحرك جميعها على أسس إلغائية واستئصالية للآخر لم تتمكن الجهود الأممية لحد الآن من توفير أرضية ملائمة لحوار فيما بينها يمكنه أن يثنيها عن سياساتها في التخلص من بعضها البعض، بل إن تلك الجهود شهدت مؤخرا انتكاسة غير منتظرة بعد رفض المؤتمر الوطني العام المسيطر على العاصمة طرابلس لمقترحات المبعوث الأممي.

وقد تأجج المشهد الليبي أكثر وبدأ يأخذ أبعادا جديدة مبهمة بعد أن أثبتت داعش أنها شركة دولية مساهمة نشطة بافتتاح فرع لها هناك عبر انضمام فصيلين إسلاميين اثنين لها هما أنصار الشريعة ومجلس شورى شباب الإسلام، وتركيزها على استغلال مزايا ليبيا جغرافيا بقربها من جنوب أوروبا وما تمثله من خلفية لفروعها في كل من مصر عن طريق أنصار بيت المقدس وفي الجزائر عبر جند الخلافة، وبشريا بتعدد جنسيات المقيمين فيها وإمكانية استقطابهم واقتصاديا لغناها بالنفط والسلاح ما يجعلها ملاذا خصبا وآمنا لترعرع التنظيم وتوسيع دائرة إشعاعه.

إن بروز داعش على الساحة الليبية واستعراض قوتها في كل من درنة وسرت وبتلك الطريقة البشعة من خلال إعدام مجموعة مواطنين مصريين تعمد أن يكونوا من المسيحيين الأقباط إيغالا في توسيع الشروخ الدينية والمذهبية في المنطقة العربية استنفر كافة القوى الدولية والإقليمية رغم اختلاف أسباب الاستنفار، ودفعها إلى التواجد بكل الوسائل في الساحة الليبية محاولة درء أي انعكاسات سلبية عليها من هناك.

ومن المرجح أن هذه التدخلات الخارجية ولاسيما من الجوار الإقليمي الذي يريد توظيف الحالة الليبية كعبرة لأي مغامرة، أملا في تحاشي انفجارات داخلية محتملة لديه على خلفية توترات اجتماعية تتفاقم حدتها يوميا ستضاعف أزمة الثقة القائمة بين الفصائل الليبية المختلفة التي لم تتوان في استخدام الأبعاد الدينية والقبلية والمناطقية واللغوية هي الأخرى لتعزيز مطالبها وإضفاء الشرعية على تحركاتها دون مراعاة لرغبات الشعب الليبي أو لطموحاته.

ولا يقتصر التوجه الأمريكي الرامي إلى إيقاد نار الخلافات الداخلية والبينية على البؤر الملتهبة أصلا، وإنما يشمل مجمل خريطة العالم العربي سعيا إلى جعل الجميع متأهبا ومستنفرا ضد بعضه البعض، باحثا تارة عن دعم دبلوماسي من واشنطن وتارة أخرى عن حماية أمنية منها، وذلك بشكل يبقي شرارة عدم الثقة متقدة والميزانيات مستنزفة، والعقول مضطربة غير قادرة على التركيز في التخطيط للمستقبل.

أفلا يدخل في هذا التوجه تحذير الإدارة الأمريكية لدول الخليج من أن الخطر الحقيقي عليها قد يأتي من شعوبها وليس من الخارج؟ إن تحذيرا مماثلا بنبرة أقوى نقل لنظام الرئيس مبارك في مصر سنة قبل الإطاحة به، ولم يكترث حينها.

أو ليست السياسة الأمريكية إزاء النزاع المفتعل حول الوحدة الترابية للمغرب أكبر دليل على إطالة أمد النزاع باستخدام ميزان دقيق في المواقف يظهر في التأرجح بين اعتبار المقترح المغربي للحكم الذاتي جديا وذا مصداقية، وبين مطالبة الأطراف بالتفاوض للوصول إلى صيغة متفق عليها لتطبيق مفهوم تقرير المصير، وهي تعرف مسبقا استحالة الوصول لمثل هذا الاتفاق .

في مقابل ذلك تعرف واشنطن جيدا أن مثل هذه المواقف المائعة وغير الحاسمة لا تدفع سوى إلى تأليب الشعوب والدول ضد بعضها البعض، وإبقاء الجميع في حالة تعبئة واستنفار دائمين يطرقون على الدوام أبواب واشنطن بالمزيد من الإغراءات والعديد من التنازلات في ملفات أخرى بحثا عن سراب ترجيح كفة هذا أو ذاك دون جدوى، وهذا ما تريده.

لقد وجد هذا السلوك الأمريكي في ثورات الربيع العربي واحتجاجاته أرضية خصبة ملائمة لتنزيل الخطوط العريضة لنظرية الفوضى الخلاقة التي بشرت بها الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس السابق جورج بوش منطقة الشرق الأوسط وشعوبها. وتستند هذه النظرية على أنه في ظل صعوبة التعامل بالمنطق مع منطقة تختلط فيها الوقائع بالأساطير من المفيد ترك شعوبها تقتتل فيما بينها أيا تكن طوائفها ومذاهبها ودياناتها ولغاتها بدلا من أن تلتفت إلى الغرب تزرع الرعب في شوارعه. ولتحقيق هذا المبتغى من الواجب:

- تأجيج خلافات دول المنطقة وشعوبها متى ما كان ذلك ممكنا إلى أن تدرك أن الجدل حول الماضي ربما كان شيقا من الناحية الفكرية، ولكنه لا يغير من الواقع شيئا لأن ما حصل قد حصل ولا يمكن تصحيحه. فالتاريخ وخاصة إذا كان ذا طبيعة أسطورية لا يمكنه تصحيح الوقائع الجغرافية.

- تبخيس قيادات المنطقة ونزع الهالة القدسية عليها، لأن من الخطأ ترك شعوب المنطقة بائسة وعاجزة تنتظر تحقق المعجزات والمخلص المنتظر، فيما يمكنها هي نفسها صنع المعجزة بالعمل على تفادي حصر خياراتها بين مطرقة الفراغ السياسي وسندان الاستبداد السلطوي.

وكما يؤكد أكثر من مفكر ومسؤول أمريكي احتكوا بهذه المنطقة، فإن الغاية من وراء ذلك هو دفع الشعوب والمجتمعات إلى الكف عن إقحام الدين في السياسة تماما كما حصل مع الشعوب الأوروبية بعد الحروب الدينية التي أنهكتها ودمرتها طويلا. ولن تفلت من مصير كهذا الدول الإسلامية في الإقليم المندفعة إلى حشر أنفها في مجمل قضاياه، وذات نفس التركيبة المجتمعية الفسيفسائية، ولاسيما إيران  وتركيا.

وفي انتظار أن تستوعب الشعوب ونخبها هذه القناعات، من المحتمل جدا في ظل التطورات الراهنة أن تعم المنطقة حروب مفتوحة أو بالوكالة قد تشظيها أكثر مما هي متشظية الآن. فهل تسمح القوى الحية والأجيال الصاعدة بمصير كهذا؟