الأحد 19 مايو 2024
سياسة

الأستاذ طبيح: وزير العدل رئيس النيابة العامة... المغالطة

 
 
الأستاذ طبيح: وزير العدل رئيس النيابة العامة... المغالطة

نشر وزير العدل والحريات، كالعادة، بلاغا صادرا عن ديوانه بتاريخ 09/04/2015 ردا منه على ما يكون قد أدلى به أحد قياديي حزب الأصالة والمعاصرة إلياس العماري من تصريح بمناسبة استضافته في برنامج "90 دقيقة" "للإقناع" الذي بثته قناة ميدي 1 تي في.

وما يجب أن يستوقفنا ويسائل كل الفاعلين الحقوقيين المهتمين بإعمال قواعد المحاكمة والمسؤولين السياسيين بإعمال مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، هو ما ضمنه الوزير في الفقرة الأخيرة من ذلك البلاغ والتي ورد فيها ما يلي:

"4- إن وزارة العدل والحريات لم توقف جميع الشكايات ضد المسؤولين الجماعيين بسبب الفساد، حيث إن الأمر يتعلق فقط بالشكايات التي يرفعها المستشارون الجماعيون لمختلف انتماءاتهم ضد بعضهم البعض، وذلك إلى غاية إجراء الانتخابات تفاديا لإقحام القضاء في تصفية الحسابات البينية والتي لا تستهدف تحقيق العدالة والإنصاف بقدر ما تستهدف التشهير والإقصاء وهو قرار لا يسري على القضايا المفتوحة والجارية قبل هذا التاريخ كما لا يشمل حالات التلبس بالجريمة وما شابهها كما أنه لا يقتصر على منتخبين دون آخرين".

إن بلاغ وزير العدل يسائل الفاعلين الحقوقيين والسياسيين على 4 مستويات:

المستوى الأول: هل يمكن لوزير العدل أن يتدخل في الدعوى العمومية بواسطة بلاغات صادرة عنه بصفته وزير العدل؟

المستوى الثاني: هل فعلا وزير العدل هو رئيس النيابة العامة؟

المستوى الثالث: هل يحق له أن يمنع النيابة العامة من تحريك المتابعة؟

المستوى الرابع: أليس ما تضمنته الفقرة المذكورة فيه تحجير على دور القضاء؟

بخصوص المستوى الأول، لم تعرف الدولة المغربية منذ بداية الاستقلال أن وزيرا للعدل أصدر عددا من البلاغات كالعدد الذي أصدره وزير العدل في الحكومة الحالية بما فيه البلاغ المتعلق بالعفو المتعلق بالعراقي ذي الجنسية الإسبانية، والذي سارع وزير العدل إلى نفي علاقته به مع أنه هو من أمر تنفيذ الظهير النتعلق بالعفو، وإن كان يصدر عن الملك، فان وزير العدل هو من ينفذه وفق أحكام الفصل 13 من ظهير المنظم للعفو رقم 1.57.387 الصادر في صيغته الأخيرة بالجريدة الرسمية بتاريخ 26/10/2011 ص 5228.

غير أنه إذا كان من حق أي عضو من أعضاء الحكومة أن يبلغ الرأي العام رأيه بخصوص قضية سياسية معينة أو يرد على خبر يعتبره عن صحيح، فإن البلاغ الذي يصدر عن ديوان وزير العدل لا يمكنه أن يتدخل في تدبير الدعوى العمومية الذي تملكها النيابة العامة كما سيتم تفصيله فيما بعد.

فظاهرة البلاغات الصادرة عن وزير العدل يجب أن تدفع إلى التساؤل عن مشروعيتها عندما نتناول قضايا ذات طبيعة مؤسسية أو قانونية.

وهذا التساؤل يدفع كذلك إلى تساؤل آخر حول مفهوم الدولة ومؤسساتها في فكر الحكومة الحالية.. فهل أعضاء هذه الحكومة يمكنهم أن يتصرفوا بكل حرية وبدون احترام لأي قانون أو ضابط، أم أن الوزير في دولة المؤسسات الذي أسس لها دستور 2011 يلزمه أن يكون عارفا بالمجال الذي يسمح له الدستور والقانون بالتحرك فيه وأن يحترم ذلك المجال في تدبيره لقطاع الذي كلف بتدبيره؟ وهذا ما يدفعنا للانتقال إلى المستوى الثاني المشار إليه أعلاه المتعلق بالمغالطة التي أصبحت جارية، القائلة بأن وزير العدل هو رئيس النيابة العامة.

فالمستوى الثاني يتعلق بالرد على المغالطة التي ترددت بكثرة أخيرا بمناسبة النقاش الدائر حول الجهة التي قرر الدستور أن تتبع لها النيابة العامة، تلك المغالطة التي تقول بكون وزير العدل هو رئيس النيابة العامة.

من غير المنازع فيه أن مؤسسة النيابة العامة هي مناقشة في صلب بناء الدولة، وبالتالي فهو مناقشة من قلب القانون والقواعد القانونية التي تنظم هذه المؤسسة وليس نقاشا انطلاقا من رغبات المتخلين وآرائهم الشخصية.

فمناقشة موقع النيابة لا يستمع فيه للآراء الشخصية للمتدخلين في ذلك النقاش، وإنما يرجع فيه إلى القواعد القانونية التي نص عليها إما الدستور أو قانون المسطرة الجنائية أو القوانين المماثلة.

فعندما نعود مثلا لقانون المسطرة الجنائية، نجد أنه حدد من هو رئيس النيابة العامة، إذ ورد في الفصل 48 منه ما يلي:

"يمثل النيابة العامة أمام محكمة الاستئناف الوكيل العام للملك شخصيا بوصفه رئيسا للنيابة العامة أبواسطة نوابه".

فالوكيل العام أمام محكمة الاستئناف هو الذي أعطاه المشرع صفة رئيس النيابة العامة.

ومن أجل أن يحسم المشرع في كونه يحصر هذه الرئاسة في الوكيل العام أمام محكمة الاستئناف، وليس أمام أي محكمة أخرى أضاف في تلك الفقرة كلمة "شخصيا" وهي تعود إلى صفة الرئاسة بينما تمثيل النيابة العامة أمام المحاكم يمكن أن يقوم به إما الوكيل العام شخصيا كما يمكن أن يقوم به أحد نوابه.

ومن أجل إنهاء النقاش حول هذه النقطة من المفيد الإشارة إلى المادة 51 من قانون المسطرة الجنائية أتت لتؤكد على أن وزير العدل ليس رئيسا للنيابة العامة وليس حتى واضعا للسياسة الجنائية كما سنفصله فيما بعد.

فإذا كان قانون المسطرة الجنائية منع وزير العدل من أن يترأس النيابة العامة وأسندها بصفة شخصية للوكيل العام للملك أمام محكمة الاستئناف، وليس أمام جهة أخرى، فبأي حق يتم تداول أن وزير العدل هو رئيس النيابة، هو التداول الذي نراه مترجما في البلاغ المشار إليه أعلاه، وهو ما ستناوله في المستوى الثالث.

فعلى المستوى الثالث، تطرح أهلية وزير العدل في منع النيابة العامة من تحريك المتابعة في الشكايات التي تتوصل بها.. والحال أن القانون لم يجعله رئيسا لها ويمنعها من مباشرة الأبحاث أو الأمر بالتحقيقات. وهذا المستوى من التساؤل يفرضه ما ورد في البلاغ المذكور أعلاه من كون وزير العدل أعطى لنفسه الحق في منع النيابة العامة من القيام بمهامها في البحث والأمر بالتحقيق في شكايات المواطنين كيف ما كانت صفتهم، بدعوى أن المستشارين الجماعيين لا يرمون من تلك الشكايات إلا تصفية الحسابات البينية.

لكن، وكما سبق بيانه، فإن مبادرة وتصرف وزير العدل السياسي، ليس نفس التصرف في علاقته بالدعوى العمومية التي تملكها بالأصل وحدها النيابة العامة، وليس وزير العدل الذي يمثل السلطة التنفيذية.

إن المشرع المغربي مثله مثل كل تشريعات الدول الديمقراطية الحديثة أعطى لوزير العدل الحق في أن يأمر كتابة الوكيل العام بمتابعة مرتكب مخالف للقانون الجنائي عندما تصل إلى علمه تلك المخالفة للقانون الجنائي.

لكن، لا يوجد أي نص لا في القانون المغربي ولا في قوانين الدول الديمقراطية ما يعطي لوزير العدل الحق في منع النيابة العامة من القيام بمهام البحث والأمر بالتحقيق فيما يصل إليها من شكايات أو أن يأمرها بحفظ المتابعة أو منع تحريكها.

فوزير العدل عندما ضمن بلاغه بكونه منع النيابة العامة من القيام بعملها في البحث في الشكايات التي توصلت بها النيابة العامة، يكون قد تدخل في عمل النيابة العامة التي هي جزء من القضاء المستقل وتجاوز سلطاته المحصورة  فقط، في الأمر بالمتابعة وليس منع النيابة العامة من المتابعة. علما أن القانون أعطى لوكيل الملك الحق إما في إحالة الشكايات على هيئات التحقيق أو هيأت الحكم أو يأمر بحفظها وفقا لأحكام الفقرة 4 من المادة 40 من قانون المسطرة الجنائية التي نصت على ما يلي:

"يحيل ما يتلقاه من محاضر وشكايات ووشايات وما يتخذه من إجراءات بشأنها إلى هيئات التحقيق أو هيئات الحكم  أو يأمر بحفظها بمقرر يمكن دائما التراجع عنه".

وهي نفس السلطات التي أعطاها القانون للوكيل العام في الفقرة 6 من المادة 49 من قانون المسطرة الجنائية.

لكن عندما يتكلم القانون على اختصاصات وزير العدل، فإنه حصرها فقط في حقه في أمر الوكيل العام كتابة بتحريك المتابعة، بينما لا يوجد أي نص في قانون المسطرة الجنائية أو في غيره يعطي لوزير العدل الحق في أن يأمر النيابة العامة بعدم البحث أو التحقيق في الشكاية التي تصل إليها.

فعندما يتضمن بلاغ وزير العدل أن وزير العدل أوقف الشكايات التي رفعت من االمستشارين الجماعيين يكون قد تجاوز سلطاته وتدخل في عمل النيابة العامة، وهو الأمر الذي لا يدخل في اختصاصه كوزير العدل.

أما بخصوص المستوى الرابع، فإن تضمين البلاغ كون الوزير منع النيابة العامة من مباشرة مهامها القانونية كان الغرض منه هو تفادي إقحام القضاء في تصفية الحسابات البينية. فإن هذا التصريح الرسمي يطرح سؤالا سياسيا وحقوقيا حول الفكر الذي يدبر به قطاع العدل.. فهل هناك اعتراف حقيقي باستقلال القضاء، أم أنه يمكن لوزير العدل والحريات أن يحل محل القضاء ويصدر أحكاما في الشكايات عندما اعتبر أن الغرض منها هو تصفية الحسابات البينية كما وصفها في بلاغه محله؟

إن وصف شكايات مواطنين، في بلاغ رسمي صادر عن ديوان وزير العدل في المغرب، بكون الغرض منها هو تصفية حسابات بين المستشارين الجماعيين وإنها ستقحم القضاء في تصفية الحسابات تلك الحسابات هو حكم مسبق في شكاية مواطن قبل أن يقول القضاء المؤهل دستوريا كلمته في تلك الشكاية. كما أنه فيه تحجير على دور القضاء مادام بلاغ وزير العدل عندما يتخوف من كون تلك الشكايات ستقحم القضاء في تصفية ما سماه الحسابات البينية، فإنه يجعل القضاء قابلا لأن يقحم أو يستعمل من طرف أو من آخر فيما سماه البلاغ بالحسابات البينية.. وهو الأمر غير المقبول عندما يصدر عن السلطة التنفيذية.

 يظهر بكل وضوح، أن أسلوب بلاغات وزير العدل يطرح من الإشكالات والمشاكل أكثر مما يقدم حلولا لها.