مهما تكلمت عن التهجير القسري للمغاربة من الجزائر فسيكون غير كاف، لأن الطريقة التي تم بها إخلاء المغاربة من منازلهم كانت قاسية، حيث تم تجميعهم في "شاليهات" أشبه بالسجون تمهيدا للطرد الجماعي..كان الأمر أكثر من وحشي..ما أقدم عليه النظام الجزائري يفوق الإنتهاكات التي قد يقدم عليها الصهاينة أحيانا. هناك آباء تم اغتصابهم بالقرب من أبنائهم، وهناك أمهات تم اغتصابهن قرب أخواتهن وأبنائهن من طرف عناصر النظام والجيش الجزائري أثناء عملية الطرد، ناهيك عن الضرب والجرح والتعنيف وإجهاض الأجنة في بطون أمهاتهن وقتل النساء الحوامل ..ما وقع يفوق أفلام الرعب، لأن الطرد تم بطريقة وحشية وقاسية، وهناك شهادات تؤكد هذه الجرائم والانتهاكات. هناك نسوة سلبت منهن ممتلكاتهن من الحلي والأساور الذهبية وطردوا بلباس النوم، بينما من الرجال من طردوا بسراويل قصيرة دون تمكينهم من ارتداء ملابسهم ولو حتى «الصندالة».. ذهبوا بهم حفاة نحو الحدود.
ومن جملة الانتهاكات تفريق الرضع عن أمهاتهن وتركهم مع آبائهم، مما يعني الإمعان في تعريضهم لخطر الموت..كان التهجير أكثر من مجرد خلق أزمة اقتصادية واجتماعية للمملكة المغربية وتعطيل سيرورة التنمية، حيث تم خلال فترة وجيزة. إذ تم التهجير قبيل العيد واستمر خلال عيد الأضحى، وهناك من طردوا بالتزامن مع العيد وآخرون بعد العيد حتى لا يعشيوا أجواء وفرحة عيد الأضحى.. الطرد كان مقررا بغض النظر عن تنظيم المسيرة الخضراء من عدمها في نظري نظرا لحقد النظام الجزائري على المغرب والمغاربة. بل الأذهى من ذلك أن نسبة كبيرة من الشعب الجزائري تم شحنهم ضد المغاربة بصفة عامة دون تمييز..أتذكر أنني ذهبت أنا وأختي الصغرى التي كانت متعلقة بي لاقتناء مادة «الفاخر» استعدادا لعيد الأضحى، فلمحني جاري بالسوق، فنادى على عناصر النظام الجزائري «هاهم المراركة». والغريب أن هذا الجار كبرت رفقة أبنائه، حيث كنت أقضي وقت الفراغ في اللعب مع أبنائه في بيته وكانت تربطنا به علاقة وطيدة، كنا نتناول الطعام سويا ونفرح معه ونبكي معه كأننا أسرة واحدة. فلما قررت السلطات الجزائرية طردنا كان من من أوائل من اقتحموا بيتنا وسرقوا أثاثنا.. وكان أول من بصق في وجهنا وضربنا بالحجارة..الضرر النفسي كان فادحا بالنسبة لنا، خاصة أننا كنا نعتبره واحدا منا، مثل والدنا أو أشقائنا... بمعنى أن المدة التي قضيناها مع هؤلاء كانت كلها نفاق..إذ كانوا يترقبون الوقت المناسب أو الفرصة للاعتداء علينا وعلى ممتلكاتنا.. إنها حقيقة الشعب الذي تم تدجينه من طرف النظام الجزائري، بغض النظر عن الجرائم التي ارتكبها الجيش كذلك.
لما ألحقوا بنا أختي الثانية، كادت والدتي القبائلية الأصل تجن من هول الصدمة..كيف يعقل أنهم يعتبرون منطقة القبائل جزء من ترابهم ويرتكبون مثل هذه الانتهاكات في حقها وهي من منطقة القبائل. كان هناك حقد كبير... تم تفريق والدتنا عن زوجها وأبنائها..لم يشفقوا لحالها أثناء تنفيذ عملية الطرد، على غرار باقي النساء المغربيات..انتزع من والدتي أبنائها وتركت في حالة هستيرية لا يقبلها العقل، علما أن مصير أبنائها الصغار كان مجهولا وهم يتجهون بهم نحو الحدود المغربية..تصور أنه تم طردي وأنا عمري 10 سنوات بسروال قصير بالتزامن مع شهر دجنبر الذي يعرف قساوة الظروف المناخية وبرودة الطقس، دون أكل ولا شراب..منا من تم ترحيلهم عبر قطار نقل المسافرين أو قطار نقل البضائع، والبعض الآخر في الحافلات، أما أنا فكان مصيري أسوأ حيث تم نقلي رفقة أختاي الصغيرتين «سنتان وثلاث سنوات من العمر» عبر شاحنة لنقل الأزبال، حيث تم تكديسنا وسط الروائح الكريهة، كانت الشاحنة تضم أيضا رضع آخرين ونساء حوامل وكانت الغاية من نقل النساء الحوامل في مثل هذه الظروف هو إجهاضهن أو قتلهن مع أجنتهن..بعضنا طلب جرعة ماء فقط فكان مصيره الركل والرفس على رأسه بالحذاء العسكري «البروتكان»..كانت إبادة حقيقية..هناك بعض الضحايا الذين لازالوا لحد الآن يتلقون العلاج النفسي بسبب هذه المأساة. فمثلا أختي الصغيرة التي لا تتذكر أي شيء عن مأساة الطرد لازال تعاني من آثار نفسية خطيرة لم يتمكن الطبيب النفساني من فك عقدتها الى اليوم، إذ اصبحت تخشى الذهاب الى الأماكن المزدحمة بما في ذلك الحفلات والأعراس، وتفضل دائما الجلوس في مكان قريب الى باب المنزل الذي يحتضن هذه الحفلات وكأنها متأهبة بشكل دائما للهرب. وأعرف سيدة من الضحايا ، لديها أبناء ولازالت الى اليوم تخشى الظلام أو النوم في الظلام....
والدتي انتقلت من وهران الى تونس لكي تلحق بنا الى المغرب بدون مال كاف..لولا بعض العائلات التونسية التي أقرضتها من أجل المجيء الى المغرب ..كانت لا تعرف أي شيء عن المغرب وكل ما تعرفه هو مدينة وجدة..كما أنها لم تكن تعرف عنوان إقامة جدي بمدينة أحفير..قضت أسبوعا كاملا من أجل الوصول الى وجدة قادمة من الجزائر عبر تونس، وقضت بعدها مدة شهرين في البحث عن مكان تواجدنا مستعينة بأهل وجدة، فمنهم من نقلها الى الناظور، ومنهم من نقلها الى تازة أو زايو ضمن رحلة البحث عن زوجها وأبنائها، قبل أن تصادف امرأة من العائلة تعرف جيدا جدي وأعمامي، فأخبرتها بأن أبناءها يتواجدون بأحفير، وأكدت لها أنه إن لم تجدينهم في أحفير فإنه من المؤكد أنهم فقدوا أو قتلوا..كانت المأساة قاسية جدا على والدتي، حيث مرضت لمدة عام بعد العثور علينا، والى يومنا هذا لم تقم بزيارة الجزائر.
عمي اجبارة البشير، يصفه الجزائريون بصنديد الثورة الجزائرية، قام بعدة عمليات ضد المستعمر الفرنسي وقد قتله بومديان في وجدة وهو مدفون بمقبرة سيدي المختار في وجدة، ولكي تدرك حجم وقاحتهم..قتلوه..شردوا إخوته وأبوه وجردوهم من أراضيهم وممتلكاتهم، ثم يظهرون في الإعلام ليتحدثوا بوقاحة عن كون اجبارة كان صنديد الثورة الجزائرية!.
كان مصيرنا مجهولا بعد وقوع المأساة، لولا تدخل الحسن الثاني رحمه الله لمساعدة الضحايا المطرودين ووقوفه شخصيا على ملف المهجرين من أجل مساعدتهم على الاندماج وتعويضهم والتكفل بعلاجهم على حساب المملكة المغربية.

